كشفت وثائق حكومية بريطانية حديثة أن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بحث إمكانية إقامة "شراكة مميزة" بين إسرائيل وحلف شمال الأطلسي، فضلاً عن علاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي، في سياق سعيه لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. الوثائق، التي أعدت في داونينج ستريت عام 2004، تكشف استراتيجيات بريطانية سرية لإعادة الهيكلة الجيوسياسية للضفة الغربية، وتقديم حوافز سياسية واقتصادية للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
تشير وثائق داونينج ستريت إلى استعداد بلير للسماح لإسرائيل بالسيطرة على "خمس كتل استيطانية رئيسية في الضفة الغربية" لتصبح جزءًا من إسرائيل، مع وضع خطة لإنهاء حق العودة للفلسطينيين إلى الأراضي التي طُردوا منها عام 1948. ووصفت الوثائق ذلك بخيار "إما أن يعودوا إلى فلسطين أو يبقون حيث هم".
الوثائق أوضحت أن المقترحات البريطانية كانت تهدف إلى تقديم الاطمئنان لإسرائيل بشأن قضايا الوضع النهائي، مع تقديم "حوافز" للفلسطينيين تشمل: منح نحو 90% من أراضي الضفة الغربية للدولة الفلسطينية المقترحة، وتعويض الأراضي التي ستضمها إسرائيل، وتقديم اعتراف دولي سياسي ومالي بالتضحيات المتعلقة بحق العودة.
كما تضمنت الخطة عقد مؤتمر دولي حول فلسطين عام 2005، وإنشاء دولة فلسطينية، وبدء مفاوضات الوضع النهائي عام 2006، مع التركيز على الضغط على الفلسطينيين للمشاركة الجادة في المفاوضات.
الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي:
اقترحت الوثائق إقامة اتفاقية جوار أوروبية خاصة تمنح إسرائيل الوصول إلى السوق الموحدة وبرامج الاتحاد الأوروبي، مع تعاون معمق في السياسة الخارجية والأمن والقضاء، وهو ما يتجاوز اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية لعام 1995.
على صعيد العلاقات العسكرية، طرحت الوثائق إمكانية إقامة شراكة خاصة مع حلف شمال الأطلسي تشمل تعزيز المشاورات السياسية والتعاون مع وكالة معايير الحلف بشأن تطوير الأسلحة، مع استمرار السماح لإسرائيل بالمشاركة في "الحوار المتوسطي" منذ عام 1995.
وفق الوثائق، كان الهدف البريطاني من هذا الضغط هو تعزيز قدرة الغرب على التأثير في الأحداث بالشرق الأوسط، وتحسين سمعة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بعد أن شهدت المنطقة اضطرابات مستمرة، وتدهور الاقتصاد الفلسطيني، وشعور دولي بأن إسرائيل تملي شروطها على الولايات المتحدة.
ويشير التقرير إلى أن الوثائق أُعدت في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2004، والذي شهد مقتل 165 فلسطينيًا على يد الجيش الإسرائيلي، معظمهم في غزة، وهو "أكثر شهر دموي" منذ عملية الدرع الواقي عام 2002.
على الرغم من انسحاب إسرائيل من أكثر من 20 مستوطنة في غزة وأربع مستوطنات في الضفة الغربية عام 2005، إلا أن التوسع الاستيطاني استمر على مدى العقود، ليبلغ عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية أكثر من 800 ألف اليوم. وتكشف الوثائق أن الخطط البريطانية آنذاك كانت تسعى لتقليل الاحتكاك الفلسطيني-الإسرائيلي مع الحفاظ على النفوذ الغربي في المنطقة.
تسلط الوثائق الضوء على الدور البريطاني المحوري في صياغة سياسات الشرق الأوسط السرية، وعلى الصلة العميقة بين إسرائيل والغرب من منظور سياسي واستراتيجي. كما تكشف التحديات المستمرة التي تواجه عملية السلام، والضغوط المزدوجة على الفلسطينيين والإسرائيليين، في إطار محاولات إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يخدم مصالح الأطراف الغربية.
تشير الوثائق البريطانية إلى أن خطة توني بلير عام 2004 لم تكن تقتصر على ترتيب النفوذ الإقليمي أو تعزيز العلاقات مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بل شملت أيضًا إعادة تعريف حقوق الفلسطينيين الأساسية، وأبرزها حق العودة. فقد اقترحت الخطة السماح لإسرائيل بالسيطرة على خمس كتل استيطانية رئيسية في الضفة الغربية، وجعل الأراضي المحتلة جزءًا دائمًا من الدولة الإسرائيلية، مع إنهاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم الأصلية. واعتُبر هذا الإجراء جزءًا من "حوافز" لضمان مشاركة إسرائيل الجادة في عملية السلام، بينما يُقابل الفلسطينيون بتقديم تعويضات مالية وسياسية واعتراف دولي بتضحياتهم، بما يعكس محاولة الغرب موازنة مصالحه الاستراتيجية مع القضايا الإنسانية والسياسية.
ويأتي هذا الاقتراح في سياق أوسع يوضح أن الغرب، عبر بريطانيا، كان يسعى لتقوية موقع إسرائيل دوليًا من خلال اتفاقيات اقتصادية وأمنية مع الاتحاد الأوروبي، وشراكات عسكرية مع حلف شمال الأطلسي، بينما كان الفلسطينيون يواجهون ضغوطًا للقبول بخطة تتضمن تنازلات تاريخية عن حقوقهم الجوهرية، بما في ذلك الحق في العودة، وهو ما يبرز الانقسام المستمر بين الاعتبارات الإنسانية والمصالح الاستراتيجية في صياغة سياسات الشرق الأوسط.
حق العودة للفلسطينيين يرتبط مباشرة بالنكبة عام 1948، عندما تم إعلان قيام دولة إسرائيل وطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم الأصلية. حوالي 750 ألف فلسطيني أصبحوا لاجئين داخل الأراضي الفلسطينية أو في الدول المجاورة، وفقدوا ممتلكاتهم ومنازلهم. هذا الحق لم يكن مجرد مطلب شخصي أو جماعي، بل أصبح عنصرًا مركزيًا في الهوية الوطنية الفلسطينية ورمزًا للعدالة التاريخية.
يستند حق العودة إلى القرار الأممي رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، والذي نص على أن اللاجئين الفلسطينيين الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم يجب أن يُسمح لهم بذلك، أو أن يحصلوا على تعويض مالي عادل إذا اختاروا البقاء في أماكن لجوئهم الحالية. كما تم تأكيد هذا الحق لاحقًا في مواثيق حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة.
الموقف الفلسطيني: يعتبر الفلسطينيون أن حق العودة غير قابل للتصرف أو التنازل عنه، وهو أحد المطالب الأساسية لأي حل شامل للقضية الفلسطينية. ويربطون بين تحقيق هذا الحق واستعادة العدالة التاريخية والمساواة أمام القانون الدولي.
الموقف الإسرائيلي: ترفض إسرائيل السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين بالكامل، بحجة أن ذلك سيغير الطابع الديموغرافي للدولة اليهودية ويهدد هويتها كدولة قومية. إسرائيل عرضت خلال مفاوضات متعددة حلولًا جزئية تتعلق بالتعويض المالي أو إعادة التوطين المحدود في مناطق أخرى، لكنها لم توافق على العودة الكاملة.
حق العودة ليس فقط مسألة ملكية وأراضٍ، بل يشمل أيضًا الاعتراف بالمعاناة الإنسانية لفلسطينيي الشتات، والذين يعيش كثير منهم في مخيمات للاجئين في الأردن ولبنان وسوريا وغيرها منذ عقود. كما أن هذه القضية ترتبط بالهوية الثقافية والتعليمية والاجتماعية، حيث يربط الفلسطينيون حقوقهم بموروثهم التاريخي ومجتمعهم.
يظل استمرار الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية أحد أبرز العوامل التي تزيد من صعوبة تحقيق حق العودة للفلسطينيين. فالتوسع المستمر للمستوطنات، وبناء البنى التحتية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، يقوض فرص إعادة اللاجئين إلى منازلهم الأصلية ويعقد أي حلول على الأرض. كما أن الطبيعة المتغيرة للواقع الجغرافي والسياسي تجعل أي اتفاق مستقبلي حول العودة أكثر تعقيدًا، إذ يصعب استعادة الأراضي التي صارت مأهولة ومستغلّة بشكل دائم.
إلى جانب ذلك، تكبر الأجيال الجديدة من الفلسطينيين بعيدًا عن أراضيهم الأصلية، سواء في المخيمات أو المجتمعات الفلسطينية في الدول المجاورة، مما يزيد من تعقيد تطبيق الحق على المستوى العملي والسياسي. فالتواصل مع الأرض الأصلية يختلط بالواقع الاجتماعي الجديد، ويجعل من الصعب الحفاظ على الانتماء المكاني والهوية الوطنية بشكل كامل، بينما تتضاءل فرص العودة العملية مع مرور الوقت.
أي مفاوضات مستقبلية حول "الوضع النهائي" بين الفلسطينيين وإسرائيل غالبًا ما تعتبر حق العودة من أكثر النقاط حساسية وإثارة للخلاف، إذ يمثل هذا الحق مزيجًا من البعد القانوني والإنساني والرمزي. فهو لا يقتصر على استعادة ملكية أو سكن، بل يرتبط بالعدالة التاريخية والهوية الوطنية الفلسطينية، ويشكل معيارًا لمدى جدية الأطراف في التوصل إلى تسوية سلمية. وبالتالي، تبقى قضية العودة محورًا محوريًا في أي محادثات سلام، ومعقدة بما يجعل أي تنازل أو حل مؤقت مثار جدل واسع على الصعيدين المحلي والدولي.
حق العودة يبقى أداة ضغط سياسية قوية للفلسطينيين، ويشكل مقياسًا لمدى جدية أي خطة سلام أو تسوية شاملة. كما أن تجاهل هذا الحق في أي اتفاق يعكس الانحياز الجيوسياسي لمصلحة إسرائيل، وهو ما يوضح أهمية الوثائق البريطانية التي اقترحت إنهاء حق العودة كجزء من استراتيجية "تسهيل الشراكة المميزة" مع إسرائيل.