يمثل البعد الديني حجر الزاوية في فهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين. فالهجرة اليهودية إلى الأرض الفلسطينية لم تكن مجرد حركة قومية سياسية، بل كانت مبنية على اعتقادات دينية عميقة تربط اليهود بأرض الميعاد وفق نصوص توراتية، تؤكد أن فلسطين هي الأرض الموعودة لشعب الله المختار. ويشير د. أحمد سلامة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة المنصورة، إلى أن هذا البعد الديني شكل الإطار الفكري والسياسي للحركة الصهيونية منذ نشأتها، مؤثرًا في سياساتها الداخلية والخارجية، وفي خطابها الدعائي تجاه اليهود والعالم الغربي.
البعد الديني للصراع في فلسطين
انطلقت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر بهدف إنشاء وطن قومي لليهود، مستندة إلى منطلقات دينية تقول إن الله منح أرض فلسطين لشعب اليهود بعهد أبدي. وقد ركزت الدعاية الصهيونية على تعزيز فكرة العودة إلى فلسطين، وربطها بحق ديني يبرر الهجرة والاستيطان، كما استخدمت التأثير العاطفي على المجتمع الغربي المسيحي لدعم هذا المشروع.
وشددت الدعاية الصهيونية على أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يمكن من خلاله إقامة الدولة اليهودية، وادعت أن اليهود هم أصحاب الحق التاريخي في الأرض، مستندة إلى مقولة شهيرة: "شعب بلا أرض يحتل أرضاً بلا شعب"، في محاولة لطمس الهوية العربية الفلسطينية. ويؤكد د. أحمد سلامة أن هذه الاستراتيجية الدينية كانت محورًا أساسيًا في إقناع المجتمع الدولي بحق اليهود في الأرض، عبر استغلال النصوص الدينية وتحويلها إلى أساطير تاريخية يصعب دحضها.
د.أحمد سلامة، أستاذ التاريخ السياسي ، جامعة المنصورة. يؤكد أن الاستراتيجية الدينية كانت محورًا أساسيًا في إقناع المجتمع الدولي بحق اليهود في الأرض، عبر استغلال النصوص الدينية وتحويلها إلى أساطير يصعب دحضها، مثل مقولة: "شعب بلا أرض يحتل أرضاً بلا شعب".
النصوص الدينية كأداة سياسية
اعتمدت الصهيونية على نصوص توراتية متعددة لتبرير مشروعها:
سفر المزامير (137: 5-7): يظهر الحنين إلى صهيون والأرض الفلسطينية، مؤكداً الصلة الروحية بين اليهود وأرضهم.
سفر يشوع (1: 1-4): يصف فلسطين كعطاء من الله لبني إسرائيل من الأردن إلى الفرات.
سفر الخروج، اللاويين، والتثنية: تؤكد جميعها أن الأرض عطاء إلهي وأن اليهود أحفاد إسرائيل لهم الحق الطبيعي في امتلاكها.
كما استغل القادة السياسيون هذا البعد الديني في تبرير السياسات الاستيطانية:
بن غوريون: اعتبر فلسطين حقاً دينياً يجب أن يهاجر إليه كل يهودي، وأن البقاء خارجها يعد خرقًا للتوراة.
موشي دايان: أكد بعد حرب 1967 أن الأرض مرتبطة بتحقيق نبوءة الآباء وأن امتلاكها واجب ديني.
هيرتزل ومناحم بيغن وموشيه ليفنغر وحاخامات آخرون: كرروا الادعاء بأن الأرض وعد إلهي يجب أن تمتلك بالكامل من النيل إلى الفرات، وأن أي تقسيم غير مشروع.
ويشير د. أحمد سلامة إلى أن النصوص الدينية لم تكن مجرد تراث ثقافي، بل شكلت أساسًا لتأسيس الدولة وصياغة سياساتها الداخلية والخارجية، بما في ذلك الهجرة الاستيطانية والتوسع الإقليمي.
البعد الديني في إعلان قيام الدولة
أعلن ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، متأثراً بالبعد الديني للحركة الصهيونية. وشمل حفل الإعلان مظاهر دينية واضحة، مثل أداء الصلاة بعد قراءة الإعلان ونشيد ديني بدلاً من النشيد الوطني، وهو ما يؤكد أن يهودية الدولة كانت جزءًا من الأساس الذي بنيت عليه السياسات الإسرائيلية.
ويضيف د. أحمد سلامة أن الإعلان جسد فلسفة الصهيونية التي تمزج الدين بالسياسة، ووضح كيف تم دمج الرموز الدينية في الدولة الجديدة:
1. الاسم والدلالات الدينية: "إسرائيل" نسبة إلى النبي يعقوب، ما يعكس الربط الروحي بين الشعب والدين.
2. الرموز: علم نجمة داوود، الشمعدان السباعي، عطلة السبت، والنشيد الوطني ذو الدلالات الدينية.
3. الهوية اليهودية للشعب: الدين هو الأساس القانوني والروحي للدولة، ولا يمكن فصل الهوية الدينية عن المواطنة.
كما استُخدمت هذه الرموز لتعزيز الهجرة اليهودية ("عليا") ولتأمين تأييد المسيحيين الغربيين، باعتبار قيام الدولة تحقيقًا للنبوءات الكتابية ومقدمة لعودة المسيح المنتظر.
البعد الديني في قوانين العودة والجنسية
تجلى البعد الديني بوضوح في قانون العودة (1950) وقانون الجنسية (1952):
قانون العودة: يمنح أي يهودي الحق في الهجرة إلى إسرائيل والمواطنة فور وصوله، على أساس دينه وليس جنسيته السابقة. ويعطي مصطلح "عودة" دلالة دينية قوية تشير إلى الرجوع إلى أرض الميعاد والصعود إليها ("عليا").
قانون الجنسية: يمنح الجنسية فوراً للمهاجرين اليهود، ويحوّل الحق التوراتي إلى حقوق مدنية ملموسة.
ويشير د. أحمد سلامة، أستاذ العلوم السياسية، جامعة المنصورة. إلى أن هذين القانونين يعكسان البعد الديني على أعلى مستوى، حيث أن تعريف "اليهودي" مرتبط بالديانة، وما زال الخلاف قائماً حول الاعتراف باليهودية لبعض المهاجرين مثل السوفيات والفلاشا، وهو ما يعكس استمرار الصلة بين الدين والهوية الوطنية في إسرائيل.
كما يوضح د. أحمد سلامة أن القانونين يضمنان أن يكون الدين هو المحدد الرئيسي للحقوق السياسية والمدنية، ما يجعل البعد الديني أكثر تأثيراً من البعد المدني أو القانوني في الدولة.
الرموز والهوية الدينية للدولة
اعتمدت إسرائيل على مجموعة من الرموز الدينية لتعزيز هويتها:
الشمعدان الذهبي: يمثل شجرة الحياة وفق سفر التكوين، ورموزه تشير إلى توجيه اليهود وقلبهم نحو فلسطين.
اليوم المقدس (السبت): يعكس قداسة اليوم وفق التوراة.
التقويم العبري: يؤكد استمرار الهوية الدينية في الحياة اليومية والسياسية.
الكنيست: الاسم مستمد من مؤسسة الهيكل الثاني، ويرمز إلى السلطة التشريعية والدينية معًا.
النشيد الوطني: يعبر عن الحنين إلى أرض الميعاد وتحقيق استقلالية الشعب اليهودي.
ويشير د. أحمد سلامة إلى أن اختيار هذه الرموز لم يكن عبثيًا، بل صُمم لتعزيز العلاقة بين الدين والدولة، ولتسويق المشروع الصهيوني داخليًا وعالميًا، مستغلة المشاعر الدينية لليهود في كل أنحاء العالم.
البعد الديني في السياسة الخارجية والاستيطان
يربط المشروع الصهيوني بين الدين والسياسة الخارجية بطريقة مباشرة، حيث أن الادعاءات الدينية تُستخدم لتبرير التوسع الاستيطاني والسيطرة على الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة. ويشير د. أحمد سلامة إلى أن الصهيونية ربطت بين العقيدة اليهودية وحق امتلاك الأرض، معتبرة أن أي يهودي لا يعيش في إسرائيل مخالف للتوراة، وأن الاحتلال والتحكم في الأرض هو واجب ديني.
وقد انعكس هذا في سياسات الهجرة الواسعة، والاستيطان، وفرض القوانين التي تضمن التفوق الديني والقومي لليهود على الفلسطينيين، بما في ذلك استبعاد العرب من العودة إلى أراضيهم، على عكس اليهود في الشتات الذين يتمتعون بحق العودة والمواطنة فورًا.
يشير د. أحمد سلامة إلى أن البعد الديني هو المفتاح لفهم الصهيونية والسياسات الإسرائيلية، فهو يفسر:
1. السياسات الداخلية: تحديد الهوية الوطنية والمواطنة على أساس الدين.
2. السياسات الخارجية: تبرير التوسع والاستيطان، وتأثير الرأي العام اليهودي والدولي.
3. الرموز والهوية: من الاسم والشعارات إلى القوانين والمناسبات الرسمية، كلها تحمل دلالات دينية واضحة.
يخلص د. أحمد سلامة إلى أن قراءة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي دون مراعاة البعد الديني ستكون ناقصة، إذ أن الدين ليس مجرد عنصر ثقافي، بل أداة استراتيجية أساسية تُستخدم لتحقيق أهداف سياسية وقومية، وتأمين التفوق الديني لليهود على الفلسطينيين.