كيف تحولت بريطانيا إلى منصة دعائية للإبادة الجماعية؟
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، تتعرض بريطانيا لضغوط داخلية وخارجية متزايدة لإعادة النظر في تحالفها مع تل أبيب. فصور الأطفال الجوعى في غزة التي أعادت للأذهان مشاهد المحرقة النازية جعلت الرأي العام البريطاني في حالة غضب عارم، وأجبرت حكومة كير ستارمر على البحث عن إجراءات لامتصاص السخط الشعبي. لكن بينما اكتفت لندن بخطوات شكلية لا تمس جوهر العلاقة مع إسرائيل، برزت شخصية السفيرة الإسرائيلية تسيبي حوتوفلي كأحد أبرز مصادر التوتر، بعدما تحولت من دبلوماسية إلى داعية علنية للإبادة الجماعية، لتثير جدلاً واسعًا حول موقع بريطانيا الأخلاقي والسياسي على الساحة الدولية.
الإجراءات البريطانية.. بين الرمزية والتواطؤ
أمام المشهد الكارثي في غزة، كان بمقدور بريطانيا أن تلجأ إلى خطوات حقيقية، من بينها وقف تصدير السلاح لإسرائيل، أو حظر مرور الشحنات الأميركية والألمانية عبر أراضيها، أو تعليق تبادل المعلومات الاستخباراتية التي تقدم دعمًا مباشرًا للجيش الإسرائيلي. كما كان يمكن لستارمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية كإشارة سياسية قوية.
لكن الحكومة لم تفعل شيئًا من ذلك، واكتفت بقرارات شكلية أبرزها إعلان تقليص صادرات السلاح بنسبة 8%، وهو رقم اتضح أنه بلا معنى بعدما ارتفعت المبيعات إلى مستوى قياسي في الأشهر التالية. كذلك جاء تعليق المحادثات التجارية مع إسرائيل كخطوة مؤقتة لم تغير في جوهر العلاقات الاقتصادية القائمة.
النتيجة أن لندن بدت وكأنها تحاول تهدئة الشارع البريطاني دون أن تقترب من جوهر تواطئها في الحرب على غزة.
حوتوفلي.. السفيرة التي كسرت قواعد الدبلوماسية
لم يكن تعيين تسيبي حوتوفلي سفيرة لإسرائيل في لندن عام 2020 خطوة روتينية في إطار العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بين الدول، بل جاء كقرار سياسي بامتياز. فحوتوفلي ليست دبلوماسية مهنية أو شخصية تكنوقراطية، بل قيادية بارزة في حزب الليكود اليميني، ومن أكثر الأصوات التشددية قربًا من بنيامين نتنياهو. تاريخها السياسي يوضح بجلاء أنها لم تُرسل إلى لندن لتكون قناة اتصال دبلوماسي هادئ، بل لتكون أداة ضغط ودعاية سياسية في قلب العاصمة البريطانية.
خلال مسيرتها، اشتهرت حوتوفلي بمواقفها الرافضة بشكل قاطع لقيام دولة فلسطينية على أي جزء من الأرض التاريخية لفلسطين، وإنكارها للنكبة الفلسطينية باعتبارها "كذبة عربية"، إضافة إلى دفاعها المستميت عن جماعات يهودية متشددة مثل "ليهافا" التي تروّج للفصل العرقي وتعارض أي علاقة بين اليهود وغير اليهود. هذه الخلفية الفكرية جعلت وجودها في لندن مصدراً دائماً للتوتر، وأخرجت دورها كسفيرة عن أي إطار تقليدي للدبلوماسية.
ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تحولت حوتوفلي إلى صوت دعائي صريح للإبادة الجماعية، عبر تصريحات صادمة للرأي العام البريطاني والدولي:
بررت قصف المدارس والمستشفيات والمنازل بزعم أن غزة "مدينة إرهابية تحت الأرض".
أعلنت، متحدية القانون الدولي، أن إسرائيل "مسموح لها بمهاجمة المستشفيات".
رفضت الاعتراف بأعداد الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل، معتبرة الأمر "غير ذي صلة".
هذا الخطاب يتجاوز حدود الدفاع السياسي عن بلدها، ليصبح تحريضًا مباشرًا على جرائم الحرب، وهو ما يضع بريطانيا في مأزق مزدوج: فهي من جهة دولة مضيفة ملزمة بالقوانين الدولية التي تمنع التحريض على الإبادة، ومن جهة أخرى، باتت تُتهم فعليًا بتوفير منصة لشخصية أجنبية متطرفة تستخدم أراضيها للترويج لخطاب دموي.
المأزق القانوني والأخلاقي
وجود حوتوفلي في لندن يتعارض مع التزامات بريطانيا كدولة موقعة على اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948. الاتفاقية لا تجرم فقط الفعل المباشر للإبادة، بل تشمل أيضًا التحريض العلني عليها، وهو بالضبط ما تمارسه حوتوفلي من خلال خطابها السياسي والإعلامي.
هذا الوضع يثير تساؤلات خطيرة:
هل بريطانيا ملتزمة فعلًا بتطبيق الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها؟ أم أنها تمارس ازدواجية سياسية تتغاضى عن التحريض الإسرائيلي بينما تُشدد قبضتها الأمنية على المسلمين البريطانيين تحت ذريعة مكافحة "التطرف الإسلامي"؟
تحويل لندن إلى منصة دعائية للإبادة عبر بقاء السفيرة الإسرائيلية تسيبي حوتوفلي، لا يمكن قراءته كحادث بروتوكولي عابر، بل كتحول استراتيجي يترك بصمات على الداخل البريطاني وعلى علاقاتها الإقليمية والدولية:
تآكل صورة بريطانيا الدولية:
الاستمرار في استضافة حوتوفلي رغم خطاباتها الصريحة الداعية إلى الإبادة، يخصم من رصيد لندن كدولة تزعم الدفاع عن "النظام الدولي القائم على القواعد". كيف يمكن لحكومة بريطانية أن تنتقد انتهاكات روسيا أو الصين لحقوق الإنسان، بينما توفر الحماية الدبلوماسية لشخصية تبرر استهداف الأطفال في غزة؟ هذه الازدواجية تنسف أي قدرة على لعب دور الوسيط النزيه في ملفات الشرق الأوسط أو في الأمم المتحدة.
تعميق الانقسام الداخلي:
بقاء حوتوفلي في لندن يتجاوز كونه أزمة خارجية، ليتحول إلى عامل شقاق داخلي. الشارع البريطاني، الذي شهد مظاهرات مليونية تضامنًا مع فلسطين، يرى في ذلك استهتارًا بإرادته السياسية. هذا التناقض بين الشارع والحكومة يعمّق فجوة الثقة، ويغذي خطاب المعارضة والهيئات الحقوقية التي تتهم السلطة بمحاباة إسرائيل على حساب القيم الديمقراطية.
تعزيز التطرف المضاد:
حضور سفيرة أجنبية تحرض علنًا على "تدمير غزة" و"شرعنة قتل المدنيين" يشكل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي البريطاني. إذ يمكن أن يُنظر إليها كرمز للتواطؤ الرسمي، ما يفاقم مشاعر الغضب داخل الجالية المسلمة والعربية، ويمنح خطاب الجماعات المتطرفة مادة دعائية جديدة للتشكيك في عدالة الدولة البريطانية. وهو ما يتناقض مع جوهر برنامج "بريفنت" (الوقاية من التطرف) الذي تتبناه الحكومة.
رسائل سلبية للشرق الأوسط:
الإصرار على الإبقاء على حوتوفلي ليس مجرد قرار دبلوماسي، بل رسالة استراتيجية للمنطقة. العالم العربي يقرأ ذلك باعتباره اصطفافًا بريطانيًا كاملًا إلى جانب إسرائيل، في لحظة تاريخية تُبث فيها صور القصف والمجازر بشكل يومي. هذا الموقف يضعف أي محاولة مستقبلية لبناء شراكات اقتصادية أو سياسية مع الدول العربية والإسلامية، خصوصًا تلك التي تحاول لندن كسبها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
تصاعد الغضب الشعبي
وجود حوتوفلي في لندن لم يمر مرور الكرام. فقد واجهت احتجاجات شعبية متكررة، أبرزها أمام كلية لندن للاقتصاد، كما جمعت عريضة تطالب بطردها أكثر من 170 ألف توقيع. ومع ذلك، لم تستجب الحكومة البريطانية، وواصلت الدفاع عنها بحجة مكافحة "معاداة السامية".
هذا التناقض كشف عن ازدواجية فاضحة: ففي حين تُطبّق بريطانيا برنامج "الوقاية" الصارم الذي يستهدف المسلمين البريطانيين تحت شعار مكافحة التطرف، فإنها تتسامح مع شخصية أجنبية متطرفة تحرّض علنًا على الإبادة وتدعم سياسات عنصرية.
بريطانيا بين واشنطن وتل أبيب
السكوت عن خطاب حوتوفلي لا ينفصل عن حسابات أوسع: فالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، والدعم غير المشروط الذي تقدمه واشنطن لإسرائيل، يجعل من الصعب على بريطانيا تبني مواقف مستقلة. وهو ما يفسر إصرار حكومة ستارمر على الاكتفاء بخطاب مهدّئ للداخل، بينما تظل التبعية للتحالف الأميركي–الإسرائيلي هي العامل الحاسم.
قضية تسيبي حوتوفلي ليست مجرد ملف دبلوماسي، بل مرآة كاشفة للأزمة العميقة في السياسة البريطانية: دولة تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان لكنها تحتضن من يبرر الإبادة، وتتباهى بمحاربة التطرف لكنها توفر منصة دعائية للتطرف الصهيوني.
وبينما يتصاعد الغضب الشعبي ويزداد الضغط البرلماني، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع بريطانيا، في ظل هذه المعادلة، أن تحافظ على مكانتها كقوة دولية تدّعي الالتزام بالقانون الدولي، أم أنها ستُسجَّل في التاريخ كشريك صامت في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في القرن الحادي والعشرين؟
بريطانيا وإسرائيل.. من وعد بلفور إلى حماية حوتوفلي
لم يكن الموقف البريطاني من الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي يومًا محايدًا أو عابرًا، بل ارتبط منذ البداية بدور تأسيسي في صياغة المشروع الصهيوني. فمنذ مطلع القرن العشرين، كانت لندن اللاعب المحوري الذي وفر الغطاء السياسي والقانوني والعملي لتأسيس الكيان الإسرائيلي، وهو ما جعلها شريكًا بنيويًا في مسار الصراع الممتد.
1. وعد بلفور 1917:
في قلب الحرب العالمية الأولى، أعلنت بريطانيا تعهدها بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، متجاهلة الحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني. لم يكن الوعد مجرد بيان سياسي، بل تحول إلى قاعدة قانونية وأداة دبلوماسية لتبرير الاستيطان والهجرة اليهودية المنظمة.
2. مرحلة الانتداب (1920–1948):
تحت غطاء الانتداب البريطاني، مورست سياسات ممنهجة لترسيخ البنية التحتية للمشروع الصهيوني: تسهيل بيع الأراضي، حماية المستوطنات، قمع الثورات الفلسطينية المتكررة (1921، 1929، 1936–1939). وبذلك لعبت بريطانيا دور "المسهّل" الذي أعد الأرض لقيام الدولة العبرية.
3. 1948 وما بعدها:
رغم انسحابها العسكري بعد إعلان قيام إسرائيل، لم تتخل بريطانيا عن شراكتها. فقد ظلت داعمًا سياسيًا وعسكريًا، ووفرت لإسرائيل شرعية دولية ساعدتها على تثبيت وجودها في الأمم المتحدة. وفي خلفية ذلك، استمر تورط الشركات البريطانية في دعم الاقتصاد الإسرائيلي الناشئ.
4. التحالف الاستراتيجي:
خلال العقود التالية، ورغم بعض لحظات التوتر (خصوصًا في أزمة السويس 1956)، ظل التعاون قائمًا، خاصة في مجالات الاستخبارات والتكنولوجيا العسكرية. لندن أدركت مبكرًا أهمية إسرائيل كـ"حليف أمامي" في الشرق الأوسط، يوازن النفوذ العربي ويخدم المصالح الغربية.
5. مرحلة "الحرب على الإرهاب":
بعد 11 سبتمبر 2001، تعمّق التحالف عبر خطاب أمني مشترك ضد "الإرهاب الإسلامي"، منح إسرائيل مساحة أوسع للتأثير في السياسة البريطانية، ورسّخ حضور اللوبي الموالي لتل أبيب في دوائر صنع القرار.
واليوم، مع وجود شخصية مثل تسيبي حوتوفلي، المعروفة بخطابها العنصري والدعائي، في قلب لندن، يبدو أن بريطانيا لم تغادر موقعها التاريخي. فهي لم تكتفِ بالسكوت عن الحرب على غزة، بل تحولت إلى منصة دعائية لخطاب الإبادة ذاته.
إن استضافة حوتوفلي ليست حادثة دبلوماسية عرضية، بل استمرار لمسار طويل من التواطؤ البنيوي مع المشروع الصهيوني؛ مسار يبدأ من وعد بلفور ويمر عبر الانتداب والتحالفات الاستراتيجية، ليصل إلى لحظة تحوّل لندن إلى غطاء دبلوماسي لإسرائيل في حرب الإبادة الجارية.