انسحاب اليونيفيل… هل هو تمهيد لاستيطان إسرائيلي في الجنوب؟

كتب خضر عواركة – وكالة أنباء آسيا

2025.08.19 - 04:29
Facebook Share
طباعة

منذ أكثر من أربعة عقود، ولبنان يعيش مع تجربة قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) في جنوبه. وُلدت هذه القوة عام 1978 عقب الاجتياح الإسرائيلي الأول، لتكون في الظاهر قوة لحفظ السلام ومراقبة وقف الأعمال العدائية، لكنها عملياً ظلت موضع جدل بين اللبنانيين: فريق يرى فيها شاهداً على الانتهاكات الإسرائيلية ومصدراً لتقارير دولية تدين الاحتلال، وفريق آخر يعتبرها مجرد قوة مراقبة لم تفعل شيئاً سوى حماية أمن إسرائيل على حساب السيادة اللبنانية.

الوجه الأول: إخفاقات اليونيفيل

الوقائع التاريخية تسند جانباً كبيراً من النقد الشعبي. فالقوة لم تنتشر على ضفتي الحدود كما هو مفترض في أي منطقة نزاع، بل اقتصرت مهمتها على الأراضي اللبنانية. لم تمنع الاجتياحات الإسرائيلية في 1978 و1982، ولا الاعتداءات الواسعة في 1993 و1996 و2006. حتى في مجزرتي قانا الشهيرتين، اكتفت بتوثيق الجريمة من دون إدانة سياسية مباشرة للمسؤولين الإسرائيليين.

كما أن إسرائيل منعت منذ البداية دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب، فيما وقفت اليونيفيل متفرجة على قيام "جيش لبنان الحر" بقيادة سعد حداد، ثم لاحقاً على "جيش لحد"، بما مثّل تكريساً لواقع الاحتلال والعمالة تحت مسمى "الشريط الأمني".

الوجه الثاني: ما قدمته اليونيفيل

لكن في المقابل، لا يمكن إغفال أن اليونيفيل تخضع لتفويض صارم من مجلس الأمن، يحصر دورها بالرقابة والتنسيق. لم تكن يوماً قوة هجومية أو ردعية، بل قوة "شهود" دوليين على ما يجري. وفي هذا السياق، مثّلت ضمانة رمزية لانتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني بعد 2006، وهي المرة الأولى منذ 1978 التي يعود فيها الجيش إلى تلك المنطقة. كما أدّت عبر "الآلية الثلاثية" دوراً في ضبط الحدود ومنع الانزلاق المتكرر إلى مواجهات مباشرة بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي.

الأهم أن اليونيفيل لم تكن بمنأى عن المخاطر، بل دفعت ثمناً دموياً نتيجة وجودها. ففي حرب تموز 2006، قُتل ضابط كندي مع ثلاثة مراقبين دوليين آخرين في قصف إسرائيلي استهدف مركزاً أممياً بوضوح رغم إبلاغات متكررة عن موقعه. وقبلها وبعدها سقط جنود من جنسيات مختلفة ضحايا في سبيل حماية المدنيين اللبنانيين، وهو ما يثبت أن هذه القوة لم تكن مجرد متفرج سلبي دائماً، بل كانت أحياناً في قلب الاستهداف الإسرائيلي.

لماذا تريد إسرائيل طرد اليونيفيل اليوم؟

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: لماذا تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى تقليص دور اليونيفيل أو حتى إخراجها من لبنان، رغم أن هذه القوة لطالما عملت بما لا يتعارض مع أولوياتهما الأمنية؟

تآكل الفائدة: ترى إسرائيل أن اليونيفيل لم تحقق الهدف الأساسي المعلن، أي منع تعاظم قوة حزب الله. فالمقاومة باتت تملك ترسانة صاروخية تفوق بكثير ما كان قائماً عام 2006، رغم تقارير ورقابة اليونيفيل.

التخفف من القيود: استمرار وجود اليونيفيل يعني وجود "شاهد دولي" يوثق الانتهاكات الإسرائيلية. إخراجها يفتح الباب أمام حرية أكبر في تنفيذ عمليات عسكرية أو حتى فرض وقائع على الأرض بلا إدانة موثقة.

إعادة إنتاج مشاريع السيطرة: أخطر ما يُخشى هو أن خروج اليونيفيل يندرج في سياق أوسع، يهدف إلى إعادة رسم الخريطة الأمنية جنوب لبنان. فإسرائيل التي جربت "الشريط الحدودي" لسنوات قد تفكر اليوم في صيغة مشابهة، سواء عبر اجتياحات محدودة أو عبر استيطان مقنّع يتذرع بحماية الحدود.

اليونيفيل لم تكن قوة تحريرية ولا رادعة، لكنها أيضاً لم تكن عديمة الجدوى تماماً. هي أداة دولية محكومة بموازين القوى الكبرى، تخدم أحياناً مصلحة لبنان في توثيق الانتهاكات، وأحياناً تتحول إلى عبء سياسي يقيّد حركة الدولة.

غير أن الدعوات الإسرائيلية والأميركية إلى طردها اليوم تنذر بما هو أبعد من إعادة تقييم دور بعثة دولية. إنها قد تكون مقدمة لسيناريو أخطر: فراغ دولي في الجنوب يسمح لإسرائيل بمدّ نفوذها المباشر أو غير المباشر، وتثبيت شكل من أشكال الاستيطان الأمني أو الديموغرافي على حدود لبنان.

إن استقرار الجنوب لم يكن يوماً نتاج وجود اليونيفيل وحدها، بل نتيجة توازن ردع معقد بين المقاومة وإسرائيل، ووجود الجيش اللبناني، وغطاء دولي هش. وأي محاولة لتفكيك هذا التوازن عبر إخراج اليونيفيل قد تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع، عنوانها هذه المرة ليس فقط الاعتداءات العسكرية، بل التمهيد لاستيطان يهدد الأرض والإنسان معاً. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 2