في لحظة مصيرية تتقاطع فيها التحوّلات الدولية بالتغيّرات الميدانية، يقف الجنوب اللبناني أمام احتمال خطير: انسحاب تدريجي أو نهائي لقوات الطوارئ الدولية (اليونيفل) بعد 47 عاماً من الانتشار. في نيويورك، بدأ النقاش حول تجديد ولايات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفي مقدمها "اليونيفل"، التي تبدو هذا العام أمام تحدٍّ وجودي حقيقي، قد يجعل من الجنوب منطقة عازلة مفتوحة أمام النفوذ الإسرائيلي المباشر.
نقاشات استثنائية ومناخ دولي متوتر
للمرة الأولى منذ تأسيس "اليونيفل" عام 1978، تخوض الدول الكبرى نقاشاً جوهرياً حول جدوى استمرار هذه القوة، وسط ضغوط أميركية غير مسبوقة لإنهاء مهمتها، وانقسام واضح بين المعسكرين الغربي والشرقي داخل مجلس الأمن. وقد تسلّمت فرنسا، بصفتها الجهة المكلّفة بصياغة القرار، مسودة مشروع التمديد، لكنها هذه المرة تجد نفسها محاصَرة بين رغبة أوروبية بالإبقاء على القوة، وتوجّه أميركي إسرائيلي صارم نحو تقليصها تمهيداً لإنهائها.
التعديل الوحيد الذي حمله المشروع الفرنسي يتمثل في توسيع "حرية حركة" اليونيفل، محاولةً لكسب رضى الأميركيين والإسرائيليين، في وقت يُتداول فيه أن حزب الله أبدى استعداداً لمقاربة جديدة في الجنوب، أقلّ تصادمية من ذي قبل، الأمر الذي يستغله الأوروبيون كورقة لتمرير التمديد.
واشنطن تصعّد... وأوروبا تناور
في المقابل، الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، تتجه نحو تقليص التمويل المخصص للياونيفل، وهو تمويل تشارك فيه الولايات المتحدة بنسبة تقارب 27% من الموازنة السنوية. وفق تقارير أميركية، فقد وقّع وزير الخارجية مايك روبيو على خطة تهدف إلى تخفيض عديد القوة خلال الأشهر المقبلة تمهيداً لإنهائها، معتبرةً أن الإنفاق عليها لم يعد ذا فائدة استراتيجية.
ورغم محاولات الوفد الفرنسي تأمين التوافق على تمديد المهمة لعام أخير، فإن المعادلة المعروضة على طاولة النقاش لا تمنح الأمل الكبير، خصوصاً في ظل رغبة إسرائيلية واضحة بإخراج القوات الدولية من الجنوب، بعد امتعاضها من مواقف "اليونيفل" خلال العدوان الأخير، ورفضها أن تكون شاهدة على الانتهاكات اليومية للسيادة اللبنانية.
تخفيضات مرتقبة... وانسحاب غير معلن
في حال تم تمرير القرار بتمديد المهمة لعام أخير من دون التمويل الأميركي، فإن "اليونيفل" ستكون مضطرة لتخفيض عديدها بنسبة تصل إلى 35%، ما يعني تقليص حضورها العسكري والمدني، الأجنبي والمحلي. وهو ما يُترجم عملياً بخروج تدريجي من الجنوب، يفتح الباب أمام تحوّل المنطقة إلى فراغ أمني، قد تملأه إسرائيل من خلال إنشاء منطقة عازلة تفرض فيها شروطها الميدانية.
المتوقع أن تبدأ هذه التخفيضات بعد صدور قرار التمديد، وستطال مختلف الوحدات، بما فيها المناصب المدنية التي يشغلها موظفون أجانب ولبنانيون، كما ستؤثر على قدرة "اليونيفل" على مراقبة الخروقات والإشراف على تنفيذ تفاهمات وقف إطلاق النار.
لبنان في مواجهة التحديات وحده؟
في ظل هذه التطورات، يُطرح السؤال الأساسي: من سيملأ الفراغ إذا انسحبت "اليونيفل"؟ هل يملك الجيش اللبناني القدرة على تولّي المهمة وحيداً؟ الإجابة الواقعية تشير إلى أن تخصيص 10 آلاف جندي إضافي لن يكون أمراً سهلاً، لا من حيث العدد ولا من حيث التمويل، خصوصاً أن الجيش يعاني أصلاً من نقص في التجهيزات والدعم المالي.
وإذا ما تم تحميل الجيش هذه المسؤولية من دون غطاء دولي، فسيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي، بلا شريك، وبلا مظلة أممية تردع العدوان أو توثّق الانتهاكات.
إسرائيل تتحرّك... والمناطق العازلة تتوسّع
في المقابل، لا تنتظر إسرائيل قرارات الأمم المتحدة كي توسّع نفوذها. فقد بدأت فعلياً بخطوات ميدانية على الأرض، من تحصين نقاط في العديسة وكفركلا، إلى الإعلان عن منطقة عازلة جديدة متاخمة لمزارع شبعا، بالتوازي مع استمرار الغارات والاختراقات الجوية والبرية.
المشهد نفسه يتكرّر في الجنوب السوري، حيث تمضي إسرائيل في قضم تدريجي للأراضي والمواقع الحساسة، من جبل الشيخ وصولاً إلى حوض اليرموك، في محاولة لبناء جدار أمني عازل حول حدودها الشمالية، مستخدمة الفوضى والفراغ كذريعة ومجال للتحرك.
ما بعد "اليونيفل": جنوب بلا رادع؟
كل المؤشرات توحي بأن قرار خفض أو إنهاء مهمة "اليونيفل" ليس مجرد خطوة مالية أو إدارية، بل جزء من مشروع أكبر تسعى إسرائيل من خلاله إلى إعادة رسم الحدود الميدانية عبر الوقائع لا التفاهمات. والفراغ الدولي المقبل في الجنوب سيشكّل فرصة لها لمواصلة سياساتها التوسعية، في وقت تنشغل فيه القوى اللبنانية بمناكفاتها، ولا يلوح في الأفق أي مشروع بديل يحفظ الاستقرار.
ومع ضعف الإرادة الدولية، وغياب الرادع، يبدو أن الجنوب يدخل مرحلة جديدة من المكاشفة: إما تثبيت دور الدولة في ظل التحديات، أو فتح الباب أمام فصل جديد من السيطرة الإسرائيلية الصامتة، تحت غطاء المناطق العازلة.