رسائل ناعمة وضغوط قاسية: بيروت بين السلاح والضمانات

رامي عازار

2025.08.19 - 12:05
Facebook Share
طباعة

 تحولت بيروت في الأيام الأخيرة إلى مركز حيوي للحراك الدبلوماسي، في وقت تتصاعد فيه وتيرة التوترات الإقليمية والدولية. زيارات متلاحقة من مسؤولين كبار، آخرهم المبعوثان الأميركيان توماس برّاك ومورغان أورتاغوس، جاءت بعد أيام من مغادرة المسؤول الإيراني علي لاريجاني، وقبيل وصول موفد سعودي جديد. هذا التسارع في الزيارات يعكس حجم الضغط المتزايد على الساحة اللبنانية، وسط محاولات لفرض خارطة طريق جديدة لسلاح المقاومة وحدود الدولة.


زيارات بلا نتائج واضحة
زيارة برّاك بدت في ظاهرها بمثابة "تهنئة" للسلطة اللبنانية على اتخاذ قرار بالحد من انتشار السلاح، لكنها حملت في طيّاتها رسالة أوضح: واشنطن تريد تسريع وتيرة تنفيذ القرار الحكومي اللبناني. رغم ذلك، لم تكن الزيارة حاسمة أو حاملة لأي التزامات جدية، لا من واشنطن ولا من الجانب الإسرائيلي، بل غادر المبعوثان سريعاً إلى تل أبيب للحصول على موقف رسمي إسرائيلي حول الورقة الأميركية.


وفي هذا الإطار، كان واضحاً أن لبنان لا ينوي المضيّ قدماً في تنفيذ القرار من طرف واحد. نائب رئيس الحكومة طارق متري عبّر صراحة عن ذلك بقوله إن الالتزام اللبناني مشروط بالتزام إسرائيل، وإن أي خطوة منفردة غير مضمونة العواقب. كما أكّد أن الجيش لم يُفرض عليه جدول زمني صارم، ما يعكس توجهاً لبنانياً عاماً بعدم التعجل في التنفيذ.


خطاب قاسم: مفاجأة مدوية
الحدث الأبرز في خلفية هذا المشهد كان الخطاب الأخير للشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، والذي حمل لهجة غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب. مصادر سياسية وصفت الخطاب بأنه صدمة لأهل الحكم، خصوصاً أولئك الذين اعتقدوا أن حزب الله قد يضطر إلى التراجع أو المسايرة.


هذا التصعيد دفع الإدارة الأميركية إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في لبنان. فخلال لقاءاته بالرؤساء الثلاثة وقائد الجيش، لمس برّاك تماسكاً غير متوقع في الموقف اللبناني، حيث تكررت المطالبة بضمانات دولية، ودعم حقيقي للجيش، وربط أي خطوة من لبنان بخطوة مقابلة من إسرائيل.


الرئيس جوزيف عون، من جهته، شدد على ثلاث نقاط: ضرورة دعم الجيش مالياً ولوجستياً، انتظار الموافقة الإسرائيلية والسورية على الورقة، وطلب مساعدات لإطلاق مشاريع إنمائية. في المقابل، أكد رئيس الحكومة على أهمية وقف الاعتداءات الإسرائيلية، والانخراط في تسوية عادلة تعيد الاستقرار إلى الجنوب.


السلطة في مأزق مزدوج
بين ضغوط أميركية علنية، ومواقف لبنانية حذرة، بدا أن أهل الحكم محاصرون بين نارين: تنفيذ القرار دون ضمانات سيكون انتحاراً سياسياً، لكن تأجيله أو التراجع عنه سيعرض البلاد لضغوط أكبر وربما عقوبات. مصادر رسمية تحدّثت عن صدمة الرئيس عون من موقف الثنائي الشيعي الموحد، إذ كان يعتقد أن رئيس مجلس النواب نبيه بري قد يكون أكثر مرونة، لكنه وجد نفسه أمام موقف متماسك رافض للتنازل من دون التزام إسرائيلي واضح.


المفاجأة الأكبر كانت موقف حزب الله، الذي لم يكتفِ بالتحفّظ بل أعلن استعداداً صريحاً للمواجهة إذا لزم الأمر، وهو ما أربك حسابات بعض أركان السلطة الذين ظنوا أن الحزب سيتراجع أمام الضغط الدولي.


موقف الجيش: الحذر سيد الموقف
خلال اللقاء مع المبعوث الأميركي، سُئل قائد الجيش العماد رودولف هيكل عن استعداد المؤسسة العسكرية لتنفيذ القرار، فكان جوابه دبلوماسياً وهادئاً: الجيش ينتظر تعليمات واضحة من الحكومة، ولا يريد اتخاذ خطوات قد تجر البلاد إلى اضطرابات داخلية. هذا الرد كان بمثابة رسالة غير مباشرة إلى واشنطن بأن الأمور ليست بهذه البساطة، وأن التعقيدات على الأرض لا تسمح بإجراءات متسرعة.


إسرائيل ترد بالتعنت
على الطرف الآخر من الحدود، لم تُظهر إسرائيل أي مؤشرات على الالتزام. بل على العكس، زادت من تحصيناتها على الحدود، وأرسل رئيس أركان جيشها في جولة تفقدية إلى الجنوب، ما اعتُبر رسالة استفزازية مباشرة. وفي ضوء ذلك، تزداد المخاوف من أن تكرار هذا السلوك الإسرائيلي سيفرغ أي مسعى لبناني من مضمونه.


لا جديد من برّاك
في خلاصة لقاءاته، لم يحمل برّاك أي جديد يُذكر. الموقف الأميركي بقي غامضاً، يتحدث عن دعم الجيش وعن ضرورة التهدئة، لكن من دون التزامات حقيقية تُجاهل السلوك الإسرائيلي أو ما إذا كانت واشنطن مستعدة لفرض أي نوع من الضغوط على تل أبيب. بل على العكس، عاد برّاك ليؤكد أن قضية السلاح شأن لبناني داخلي، في تلميح ضمني إلى أن لا ربط بين ما تريده إسرائيل وما يُطلب من لبنان.


الرسائل المبطنة
اللافت أن الحديث الأميركي المتوجه إلى الطائفة الشيعية جاء بناءً على طلب من رئيس الجمهورية، الذي أبدى قلقه من شعور هذه الطائفة بأنها مستهدفة، في ظل غياب مشروع واضح لحمايتها من التبعات المحتملة لتنفيذ القرار. ورغم أن واشنطن تحاول طمأنة بعض الأطراف اللبنانية، إلا أن التخوف الشعبي والسياسي لا يزال سيد الموقف.


خلاصة:
زيارة برّاك كانت أشبه بجولة جسّ نبض أكثر منها مبادرة واضحة. بيروت تدرك أن القرار الحكومي قابل للاشتعال إن لم ترافقه ضمانات حقيقية، في حين تواصل إسرائيل صلفها، مما يفتح الباب أمام احتمالات مفتوحة بين التهدئة المؤجلة والانفجار المؤجل.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 6