تتجه الأنظار من جديد إلى وزارة العدل الأمريكية بعد إعلانها البدء في تسليم دفعة من الوثائق المرتبطة بقضية رجل الأعمال الراحل جيفري إبستين، الذي ارتبط اسمه بواحدة من أضخم قضايا الاستغلال الجنسي والاتجار بالقُصر في العقود الأخيرة. القضية التي هزت الأوساط السياسية والمالية منذ انكشافها عام 2008، لا تزال تلقي بظلالها على المشهد الدولي، وسط مخاوف من أن تكشف الوثائق المرتقبة عن تورط شخصيات نافذة في الولايات المتحدة وخارجها.
جيفري إبستين، الذي جمع ثروته عبر شبكة علاقات مالية وسياسية متشابكة، واجه لأول مرة اتهامات جدية عام 2008 عندما وُجهت له تهم باستغلال قاصرات. لكن الصفقة القانونية المثيرة للجدل التي أبرمت آنذاك سمحت له بتفادي السجن الفيدرالي، وقضى عقوبة مخففة أثارت انتقادات واسعة بشأن نفوذ المال في توجيه العدالة. ومع عودة التحقيقات عام 2019 واعتقاله مجددًا في نيويورك، تصاعدت الأصوات المطالبة بكشف كل الحقائق، قبل أن تنتهي حياته في زنزانته في ظروف وُصفت رسميًا بأنها "انتحار"، لكنها لا تزال موضع جدل واسع.
العدالة الأمريكية على المحك
إعلان وزارة العدل الأمريكية عن تسليم الوثائق لا يُنظر إليه بوصفه إجراءً إداريًا، بل اختبارًا لمصداقية النظام القضائي في التعامل مع قضايا النخبة. هناك توقعات بأن تكشف الوثائق عن أسماء لشخصيات رفيعة المستوى، وربما علاقات مع مؤسسات رسمية. وفي المقابل، يخشى مراقبون أن يتم تنقيح الملفات بشكل واسع، ما قد يعيد إنتاج صورة "العدالة الانتقائية"، ويُفاقم من فقدان الثقة العامة في مؤسسات الدولة.
البعد الدولي للقضية
لا يمكن التعامل مع ملف إبستين باعتباره قضية أمريكية بحتة. فقد كان إبستين شخصية عابرة للقارات، يرتبط بعلاقات مع رجال أعمال وسياسيين في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. في بريطانيا، ظل اسم الأمير أندرو يتصدر الأخبار باعتباره أحد أبرز المتورطين في شبكة علاقاته. وفي فرنسا، لا تزال التحقيقات قائمة حول ما إذا كان إبستين قد استغل إقامته هناك لممارسة نشاطاته. أما في الشرق الأوسط، فقد رُصدت رحلاته المتكررة التي تطرح تساؤلات حول امتداد شبكته إلى عواصم عربية وخليجية. هذا الامتداد الجغرافي يعزز المخاوف من أن الوثائق الأمريكية لن تكشف سوى جزء من الحقيقة.
الإعلام بين فضح الحقائق وصمت المؤسسات
منذ لحظة الإعلان عن قرب الإفراج عن الملفات، انقسم المشهد الإعلامي بين الترقب والاتهامات المتبادلة. الصحف الأمريكية الكبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز التزمت خطابًا حذرًا، يركز على الإجراءات القانونية دون الإشارة المباشرة إلى الأسماء. في المقابل، دفعت القنوات المحافظة مثل فوكس نيوز باتجاه التركيز على احتمال تورط إدارات ديمقراطية سابقة، فيما حاولت وسائل الإعلام التقدمية إبراز الجانب الإنساني عبر نقل شهادات الضحايا.
أما الإعلام الأوروبي، فكان أكثر صراحة. الصحافة البريطانية واصلت متابعة قضية الأمير أندرو بوصفها اختبارًا للنظام الملكي، فيما ربطت صحف فرنسية وألمانية القضية بملفات أوسع تتعلق بالفساد العابر للحدود. هذا التباين الإعلامي يعكس الصراع الدائم بين مؤسسات تحاول احتواء الفضيحة وصحافة استقصائية تسعى إلى جعلها قضية رأي عام عالمي.
السيناريوهات المحتملة بعد تسليم الملفات
مع اقتراب لحظة الكشف، يرى محللون أن القضية قد تتجه إلى أحد ثلاثة سيناريوهات رئيسية. السيناريو الأول، أن تكشف الوثائق عن تفاصيل صادمة تطال شخصيات سياسية ومالية نافذة، ما قد يؤدي إلى ملاحقات قضائية جديدة ويعيد فتح الملف على نطاق عالمي. السيناريو الثاني، أن تُنقّح الوثائق بشكل كبير بحيث يقتصر ما يُكشف عنه على أجزاء غير حساسة، وهو ما سيعزز الاتهامات بوجود تستر رسمي. أما السيناريو الثالث، فهو أن تتحول الوثائق إلى ورقة سياسية بيد الحزبين الأمريكيين، تُستخدم في الحملات الانتخابية أكثر مما تُستخدم لإحقاق العدالة.
أبرز محطات القضية
بدأت فصول قضية جيفري إبستين عام 2005، حين فتحت السلطات في ولاية فلوريدا تحقيقًا أوليًا بعد شكاوى تقدمت بها فتيات قاصرات تحدثن عن استغلال جنسي. ورغم خطورة الاتهامات، لم يُحسم الملف بشكل رادع آنذاك.
في عام 2008، جرى التوصل إلى صفقة قضائية مثيرة للجدل سمحت لإبستين بتفادي محاكمة فيدرالية، مقابل قضاء حكم مخفف في السجن بولاية فلوريدا. هذه الصفقة أثارت جدلًا واسعًا لاحقًا، بعد الكشف عن ضغوط سياسية وقانونية رافقتها.
بحلول عام 2015، عادت القضية إلى الواجهة من جديد، مع رفع دعاوى مدنية من ضحايا مفترضات تحدثن عن عمليات استغلال واسعة النطاق، شملت شخصيات نافذة في عالم السياسة والمال.
وفي يوليو/تموز 2019، ألقي القبض على إبستين مجددًا في نيويورك بتهم الاتجار بالقاصرات، في خطوة بدت حينها كأنها ستفتح الباب لمحاسبة غير مسبوقة. لكن بعد أسابيع قليلة، وتحديدًا في أغسطس/آب من العام نفسه، عُثر عليه ميتًا في زنزانته، وقالت السلطات إن الأمر يتعلق بـ"انتحار"، فيما ظلّت الشكوك قائمة حول احتمال تعرضه للتصفية.
منذ عام 2020 وحتى 2024، استمرت التحقيقات حول شركائه والمستفيدين من شبكته، وبرزت محاكمات فرعية أبرزها محاكمة مساعدته المقربة غيسلين ماكسويل، التي أدينت بدورها بتهم التورط في استدراج الفتيات.
أما في عام 2025، فقد أعلنت وزارة العدل الأمريكية رسميًا عن بدء تسليم الوثائق السرية المرتبطة بالقضية، وهو ما أعاد الملف مجددًا إلى صدارة المشهد، وأثار موجة جديدة من التساؤلات حول حجم التورط الدولي في شبكة إبستين.
قضية إبستين لم تعد مجرد ملف قضائي معلق، بل تحولت إلى مرآة تعكس هشاشة الأنظمة القضائية أمام سطوة المال والنفوذ، وإلى اختبار لمدى قدرة الإعلام والمجتمع المدني على ملاحقة الحقيقة. ومع كل وثيقة جديدة تُكشف، يزداد الجدل حول ما إذا كانت العدالة ستُطبق على الجميع بلا استثناء، أم أن هذه الفضيحة ستنتهي كغيرها، بضجة دولية تعقبها تسويات صامتة تحفظ للنخبة مواقعها، وتترك الضحايا في مواجهة ذاكرة لا تمحى.