وسط تصاعد التوتر على الساحة اللبنانية، يزور المبعوث الأمريكي توم باراك لبنان في محاولة لإعادة رسم خريطة القوة بين الدولة و"حزب الله". الزيارة تأتي في وقت يشهد فيه لبنان تحركات سياسية غير مسبوقة نحو حصر السلاح بيد الدولة، في خطوة قد تهز أركان الواقع الداخلي وتهدد استقرار المنطقة إذا لم تدار بحكمة.
أعلن باراك بعد لقائه الرئيس اللبناني جوزيف عون في قصر بعبدا، بحضور المبعوثة الأمريكية مورغان أورتاغوس والسفيرة ليزا جونسون، أن ملف "نزع سلاح حزب الله" كان محور النقاش. وأكد أن "نزع السلاح هو قرار يخص الدولة اللبنانية"، مشددًا على أنه لا يوجد أي تهديد أمريكي، وأن هناك تعاونًا من جميع الأطراف.
وأضاف باراك أن لقائه بالرئيس عون تناول التقدم الذي أحرزته الحكومة اللبنانية في حصر السلاح بيد الدولة، مشيرًا إلى أن القرار يحتاج لتعاون إسرائيلي لضمان نجاحه، ومؤكدًا أن "التقدم المرتقب سيعني حياة أفضل للشعب اللبناني ودول الجوار، وخريطة طريق لنوع مختلف من الحوار بين لبنان وجواره".
في الوقت نفسه، أوضحت أورتاغوس أن زيارتها كانت جزءًا من فريق المبعوث الأمريكي بتوصية من الرئيس دونالد ترامب، ما يعكس اهتمام الإدارة الأمريكية بهذا الملف الحيوي.
ومن المقرر أن يلتقي باراك رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة، ثم رئيس الحكومة نواف سلام في السراي الحكومي، بالإضافة إلى قائد الجيش العماد رودولف هيكل وعدد من الشخصيات السياسية والعسكرية اللبنانية.
تأتي هذه التحركات في ظل توتر داخلي متصاعد بسبب ملف سلاح "حزب الله"، الذي يعتبره الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، ركيزة أساسية للمقاومة اللبنانية. وقد أكد قاسم أن المقاومة لن تسلم سلاحها طالما العدوان مستمر والاحتلال قائم، محذرًا من أن أي محاولة لتجريد الحزب من سلاحه قد تؤدي إلى فوضى وفتن داخلية.
وتثير هذه التصريحات أسئلة حول قدرة الحكومة اللبنانية على فرض سيطرتها على السلاح، ومدى استعداد الأطراف اللبنانية كافة للانخراط في خطة تهدف إلى تعديل التوازنات الأمنية في البلاد.
زيارة المبعوث الأمريكي تمثل اختبارًا حقيقيًا للدولة اللبنانية بين السيادة الوطنية والمصالح الإقليمية، في ظل ضغوط داخلية وخارجية متزامنة. المستقبل يبدو معقدًا، إذ أن نجاح أي خطة لنزع السلاح سيعتمد على قدرة الدولة على التفاوض مع "حزب الله" وإقناع جميع الأطراف بمصلحة الاستقرار، وإلا فإن لبنان قد يواجه مرحلة من الانقسامات العميقة والاحتكاكات الداخلية المحتملة.
ملف سلاح "حزب الله" يعتبر من أكثر الملفات تعقيدًا في السياسة اللبنانية، لأنه يجمع بين بعد داخلي مرتبط بالسيادة الوطنية وبنية الدولة، وبعد إقليمي يرتبط بالمصالح الاستراتيجية لإيران وإسرائيل ودول المنطقة. تأسس "حزب الله" في الثمانينيات خلال الحرب اللبنانية، بدعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان الجنوبي. منذ ذلك الحين، حافظ الحزب على ترسانة عسكرية غير خاضعة لرقابة الدولة اللبنانية، ما حوله إلى قوة موازية للجيش الرسمي، وركيزة تأثير رئيسية في السياسة اللبنانية الداخلية والإقليمية.
على المستوى الداخلي، يعتبر سلاح "حزب الله" عنصرًا محوريًا في معادلة القوة بين الطوائف اللبنانية. الحزب، مدعوم سياسيًا من كتلة واسعة في البرلمان اللبناني، يطرح نفسه كحامي للبلاد من التهديدات الإسرائيلية، وهو ما أكسبه شعبية واسعة في أوساط الشيعة، بينما يثير مخاوف قوى لبنانية أخرى ترى في ترسانة الحزب تحديًا لسيادة الدولة ونظام الأمن الوطني الموحد.
على المستوى الإقليمي، يشكل الحزب أداة نفوذ رئيسية لإيران في الشرق الأوسط، حيث يشارك في دعم جماعات مسلحة في سوريا والعراق وفلسطين، ويحتفظ بعلاقات وثيقة مع النظام السوري. في المقابل، تعتبر إسرائيل سلاح الحزب تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا، وهو ما يجعل أي نقاش حول نزع السلاح مرتبطًا بضغط دولي وإقليمي، خصوصًا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تصنف الحزب كتنظيم إرهابي، وتطالب بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية كشرط لاستقرار لبنان وأمن دول الجوار.
منذ اتفاق الطائف 1989، سعى لبنان رسميًا إلى دمج جميع القوى المسلحة في الدولة، إلا أن "حزب الله" نجح في الحفاظ على ترسانته تحت حجج المقاومة الوطنية، ما جعل ملف نزع السلاح يتجدد بين الفينة والأخرى دون تنفيذ فعلي. السنوات الأخيرة شهدت تصاعد الدعوات اللبنانية والدولية لحصر السلاح بيد الدولة، خاصة بعد النزاع الإسرائيلي الأخير وتصاعد التوترات على الحدود الجنوبية، حيث طالب المجتمع الدولي بوضوح بحصر السلاح لتجنب انفجارات أمنية قد تؤدي إلى فتن داخلية واسعة.
في هذا السياق، تصريحات الأمين العام للحزب نعيم قاسم بأن المقاومة لن تسلم سلاحها طالما العدوان مستمر والاحتلال قائم، تؤكد الصعوبة العملية لأي خطة حكومية لنزع السلاح. كما أن أي محاولة لإجبار الحزب على التخلي عن ترسانته العسكرية قد تؤدي إلى صراع داخلي، يعيد لبنان إلى دوامة الانقسامات الطائفية والأمنية التي عرفها في مراحل سابقة من تاريخه.
إجمالًا، ملف نزع سلاح "حزب الله" لا يتعلق فقط بترسانة حزب لبناني، بل يمثل صدامًا بين الدولة والفاعلين المسلحين، بين السيادة الوطنية والتدخلات الإقليمية، وبين استقرار لبنان الداخلي وأجندات القوى الكبرى في المنطقة. نجاح أي خطة بهذا الخصوص يتطلب توافقًا داخليًا واستعدادًا سياسيًا ومفاوضات دقيقة مع الحزب، وإلا فإن البلاد قد تواجه مرحلة من الفوضى والاحتكاكات الداخلية الخطيرة.