شهدت محافظة السويداء، معقل الطائفة الدرزية جنوب سوريا، تحولًا جذريًا في موقفها السياسي، إذ انتقلت من حالة الحياد النسبي تجاه الصراع السوري إلى حراك شعبي غير مسبوق يطالب بالحقوق الأساسية وتقرير المصير. هذه الاحتجاجات التي بدأت بمطالب معيشية سرعان ما تطورت لترفع شعارات سياسية عميقة، لتصبح السويداء بؤرة اهتمام إقليمي ودولي.
من الحياد إلى المواجهة: ديناميكيات الحراك
لعقود، حافظت الطائفة الدرزية على علاقة معقدة مع النظام السوري، تقوم على التوازنات الدقيقة وتجنب المواجهة المباشرة. ولكن، الأسباب التي أدت إلى اندلاع المظاهرات الحالية متعددة ومتداخلة:
* الإحساس بالتهميش: يشعر الدروز بأنهم مهمّشون سياسيًا واقتصاديًا، خاصة مع تدهور الأوضاع المعيشية وانهيار الخدمات الأساسية في المحافظة.
* الفراغ الأمني: خلقت سنوات الحرب فراغًا أمنيًا سمح ببروز قوى محلية مسلحة، مما أضعف قبضة الحكومة المركزية وأعطى الدروز مساحة أكبر للمطالبة بحقوقهم.
* العامل الإقليمي: تدرك الأطراف الإقليمية، وفي مقدمتها إسرائيل، أهمية السويداء كموقع استراتيجي. ففي الوقت الذي تراقب فيه إسرائيل الأوضاع عن كثب، تسعى لضمان استقرار المنطقة الحدودية، وقد تراهن على دعم الأقليات لتعزيز نفوذها، هذه الديناميكيات الإقليمية تمنح الحراك الدرزي غطاءً غير مباشر.
* تآكل الثقة: تآكلت الثقة بين المجتمع الدرزي والحكومة المركزية بعد سنوات من الوعود غير المنجزة، خاصة فيما يتعلق بالخدمات وتجنيد الشباب، مما دفع المجتمع إلى اتخاذ موقف أكثر حزمًا.
شعار "الحكم الذاتي": رمزية ومخاطر
لا تزال فكرة "الحكم الذاتي" محل نقاش بين النخب الدرزية. ففي حين يرى البعض أنها الحل الوحيد لحماية الطائفة من الصراعات الإقليمية والمحلية، يخشى آخرون من أن تؤدي هذه المطالب إلى عزل السويداء عن باقي سوريا وتجعلها عرضة للتدخلات الخارجية. تظهر هذه المطالب رغبة الدروز في إدارة شؤونهم المحلية دون تدخل كامل من دمشق، مع الإبقاء على الوحدة الجغرافية لسوريا.
مستقبل السويداء: سيناريوهات محتملة
* السيناريو الأول: "الإدارة الذاتية بحكم الأمر الواقع"
قد تتجه الأمور نحو اتفاق غير رسمي بين الحكومة المركزية والقيادات المحلية في السويداء. بموجب هذا السيناريو، تدير القوى المحلية الشؤون المدنية والأمنية في المحافظة، بينما تحتفظ دمشق بسيطرة رمزية. هذا الحل قد يرضي الطرفين على المدى القصير، ويجنبهما المواجهة المباشرة.
* السيناريو الثاني: "التصعيد والمواجهة"
إذا فشلت المفاوضات وتجاهلت دمشق المطالب الدرزية، قد يتصاعد التوتر إلى مواجهة مفتوحة. هذا السيناريو محفوف بالمخاطر، حيث يمكن أن يؤدي إلى تدخلات إقليمية أوسع، خاصة من الأطراف التي ترى في السويداء ورقة ضغط ضد النظام السوري.
* السيناريو الثالث: "التسوية السياسية"
هذا هو السيناريو الأكثر تفاؤلًا. قد يؤدي الحراك في السويداء إلى تسوية سياسية شاملة ضمن إطار تسوية الأزمة السورية ككل، مما يضمن حقوق الأقليات ويضع نموذجًا لإدارة لامركزية في مناطق أخرى.
إن الأحداث في السويداء ليست مجرد مظاهرات معيشية عابرة، بل هي مؤشر على تحول أعمق في المشهد السوري. إنها تعكس تآكل سلطة الدولة المركزية، وتؤكد أن الأقليات لم تعد تقبل بالوضع الراهن، بل تسعى لتأمين مستقبلها بنفسها. سيبقى رهان دمشق على احتواء هذا الحراك، ورهان السويداء على انتزاع حقوقها، بينما يترقب العالم نتائج هذا الصراع الجديد.
تعد الطائفة الدرزية جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي في سوريا، وتتركز غالبيتها في محافظة السويداء جنوب البلاد. يعود الوجود الدرزي في المنطقة إلى قرون مضت، وقد لعبوا دورًا مهمًا في تاريخ سوريا الحديث.
من أبرز محطاتهم التاريخية هي الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي عام 1925، والتي انطلقت من السويداء بقيادة سلطان باشا الأطرش. هذه الثورة منحت الدروز مكانة رمزية خاصة لدى السوريين، وعززت شعورهم بالخصوصية والهوية المتميزة.
منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، حافظ الدروز على علاقة معقدة مع النظام. فمن ناحية، كان هناك تمثيل سياسي لهم في مؤسسات الدولة، ومن ناحية أخرى، حافظوا على استقلالهم النسبي وتجنبوا الانخراط الكامل في سياسات النظام، خاصة فيما يتعلق بالصراعات الإقليمية.
السويداء في سياق الأزمة السورية
عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، اختارت السويداء مسارًا مختلفًا عن بقية المحافظات. تجنبت الدخول في الصراع المسلح المباشر، وحافظت على حيادها النسبي. هذا الحياد لم يكن مطلقًا، بل كان نتاجًا لعدة عوامل:
* حماية الذات: سعى وجهاء الطائفة إلى حماية السويداء من الانزلاق في صراع أهلي قد يعرضها للخطر.
* الخطوط الحمراء: أدرك الدروز أن أي انخراط في الصراع قد يجعلهم عرضة للهجمات من الجماعات المتطرفة.
* العلاقة مع النظام: على الرغم من تحفظهم، لم يقطع الدروز علاقتهم بشكل كامل مع الحكومة المركزية، بل قاموا بإدارة شؤونهم الأمنية بشكل محلي بالتعاون مع مؤسسات الدولة.
ومع ذلك، أدى استمرار الأزمة وتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية إلى تآكل هذا الحياد. أصبحت المحافظة تعاني من نقص الخدمات الأساسية، وزادت معدلات البطالة، مما دفع السكان إلى الخروج في احتجاجات سلمية، تطورت مع الوقت لتصبح حراكًا سياسيًا يطالب بحقوق أوسع.
الاعتبارات الإقليمية
تعد السويداء منطقة ذات أهمية استراتيجية كبيرة نظرًا لقربها من الحدود مع الأردن وإسرائيل. هذا الموقع الجغرافي يجعلها ورقة ضغط مهمة في أي تسوية مستقبلية للأزمة السورية.
* إسرائيل: ترى في المنطقة أهمية خاصة للحفاظ على استقرار حدودها الشمالية. كما أن الوجود الدرزي في إسرائيل وفلسطين التاريخية، يمنحها اهتمامًا إضافيًا بما يحدث لأبناء جلدتهم في سوريا.
* الأردن: يسعى الأردن إلى تجنب أي اضطرابات على حدوده الشمالية، ويخشى من أن يؤدي أي تصعيد في السويداء إلى موجات لجوء جديدة.
* إيران: تسعى إيران لتعزيز نفوذها في الجنوب السوري، مما يجعلها طرفًا في الصراع على النفوذ في المنطقة.
باختصار، يمكن القول إن الحراك في السويداء ليس مجرد صراع محلي، بل هو جزء من صورة أكبر للصراع على السلطة والنفوذ في سوريا.