منذ لحظة وصول أولى موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، كان الدين حجر الزاوية في بناء المشروع الصهيوني. لم يكن مجرد عنصر ثقافي أو روحاني، بل أصبح أداة سياسية وأيديولوجية تشكل أساس القومية اليهودية. الصهيونية بدأت كحركة علمانية تسعى لوطن قومي، لكنها سرعان ما اندمجت مع الصهيونية الدينية وحركة مزراحي، ليصبح التوراة، وأرض إسرائيل، والشعب اليهودي مفاتيح للرؤية القومية وللسياسات العملية.
عند إعلان دولة إسرائيل عام 1948، حاول المؤسسون فصل الدين عن الدولة، لكن هذا الفصل لم يستمر طويلاً. فقد امتد الدين ليشكل جزءًا أساسيًا من التشريعات، والنظام الاجتماعي، والجيش، والسياسات العسكرية. من الاستيطان إلى العمليات العسكرية في غزة والضفة الغربية، وحتى مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يؤكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عليه، يظهر الدين كقوة حاكمة توجه كل خطوة من خطوات الدولة.
الصهيونية الدينية، التي أرساها الحاخام أبراهام كوك وحركة مزراحي، لم تكن مجرد تيار روحي، بل إطار أيديولوجي يبرر السيطرة على الأراضي الفلسطينية ورفض أي تنازل عنها. الأحزاب والحركات الدينية اليوم، مثل "البيت اليهودي" و"اليمين الجديد" و"يهودوت هتوراة"، تستند مباشرة إلى هذه الرؤية، لتصبح الدين والأيديولوجيا معًا أداة صاغت السياسات الداخلية والخارجية للدولة منذ ولادتها وحتى اليوم.
فهم هذا البُعد الديني ليس خيارًا تحليليًا، بل ضرورة لفهم ديناميات الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وواقع السياسات الإسرائيلية الحالية تجاه غزة والضفة الغربية، وتعقيدات أي تسوية سياسية مستقبلية. الدين هنا ليس مجرد سياق تاريخي، بل مفتاح لكل قرار، وكل استراتيجية، وكل خطوة في هذا الصراع المستمر.
تقريرنا هذا يستعرض البُعد الديني منذ جذور الصهيونية، مرورًا بتحولاته عبر التاريخ، وصولًا إلى تأثيره الراهن على السياسة الداخلية والإستراتيجية العسكرية لإسرائيل، مع تحليل كيفية تفاعل الدين مع القومية اليهودية وأثره على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الجذور الدينية للصهيونية
ظهرت الصهيونية أيديولوجيًا في أواخر القرن التاسع عشر كحركة قومية تهدف إلى إعادة تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، كرد فعل على موجة المعاداة للسامية في أوروبا والتهميش الاجتماعي والسياسي الذي عاشه اليهود في الشتات. وقد تبلورت هذه الحركة أولًا على يد ثيودور هرتزل (Theodor Herzl، 1860–1904، صحفي ومؤرخ نمساوي ومؤسس الصهيونية السياسية)، الذي نظر إلى إقامة الدولة اليهودية من منظور سياسي واجتماعي بحت، بعيدًا عن الدين، معتبرًا أن الحل لمشاكل اليهود يكمن في تأمين وطنية قومية ومستقبل سياسي آمن. هرتزل ركز على المنطق الواقعي والتخطيط المؤسسي، ودعا إلى إقامة مؤسسات حكومية يهودية تجريبية في فلسطين كخطوة عملية نحو الدولة.
رغم الطابع العلماني الأولي للحركة، لم يكن الحراك الصهيوني بمعزل عن التراث الديني اليهودي. فقد ظل المفهوم التوراتي لأرض إسرائيل حاضرًا بقوة في وعي القادة اليهود وفي المجتمعات اليهودية في الشتات، حيث ارتبطت الأرض المقدسة بالوعود الإلهية والنبوءات المتعلقة بالخلاص الوطني والروحي للشعب اليهودي. هذه الروابط الدينية لم تكن مجرد رموز ثقافية، بل أصبحت قوة تحفيزية أساسية لتشكيل الهوية الصهيونية ودفعها نحو التطبيق العملي على الأرض.
في هذا السياق، برزت الصهيونية الدينية كمكون أساسي لاحقًا في الحركة. كان الحاخام أبراهام كوك (Abraham Isaac Kook، 1865–1935، حاخام رئيسي في القدس ومؤسس حركة "مزراحي") أبرز من جمع بين الطابع الديني والوطني، حيث اعتبر إقامة الدولة اليهودية في فلسطين تجسيدًا للنبوءات التوراتية وخطوة نحو تحقيق الخلاص الإلهي المنشود. دعا كوك إلى دمج التقاليد الدينية مع العمل السياسي، مؤكدًا أن الدولة اليهودية ليست مجرد مشروع حضاري أو سياسي، بل رسالة دينية لها أبعاد روحية.
وقد تجلى هذا المزج بين الدين والسياسة في قرارات صهيونية محددة، مثل مشروع "الهجرة الشرعية" (Aliyah) الذي دعمه الحاخام كوك لتوطين يهود متدينين في فلسطين، مع الحفاظ على الطقوس الدينية والقوانين اليهودية في المستوطنات الأولى، وأيضًا في تأثير الرؤية الدينية على تقسيم الأراضي واختيار مواقع المستوطنات في القدس والمناطق التاريخية، باعتبارها مرتبطة بالنبوءات التوراتية. هذه الأمثلة التاريخية تعكس كيف شكّل البعد الديني قاعدة قوية لتفسير الصهيونية ليس فقط كحركة وطنية، بل كرسالة دينية قومية، ما عزز الشرعية الروحية والسياسية في الوقت نفسه، ويظل هذا المزج مفتاحًا لفهم جذور الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
الدين والسياسة في فلسطين منذ أول هجرة يهودية
الهجرة اليهودية الأولى (1882–1903 – Aliyah الأولى)
بدأت الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، في إطار ما يُعرف بـ"الهجرة الأولى". جاء معظم المهاجرين من شرق أوروبا وروسيا هربًا من المذابح والمعاداة للسامية، وللبحث عن فرص حياة أفضل. كانت الصهيونية في هذه المرحلة حركة قومية علمانية، تهدف إلى إقامة وطن قومي لليهود بعيدًا عن الدين، لكن الرموز الدينية مثل ذكر أرض إسرائيل والاعتماد على التراث التوراتي ظلت حاضرة في وعي المهاجرين. أسس هؤلاء المهاجرون مستوطنات زراعية مثل مستوطنة بئيري ومزرعة بيت يسرائيل، حيث أصبح العمل على الأرض جزءًا من الهوية الوطنية اليهودية.
الهجرة اليهودية الثانية (1904–1914 – Aliyah الثانية)
شهدت هذه المرحلة زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين، وجاء معظمهم من روسيا وشرق أوروبا، حاملين أفكار الصهيونية العلمانية، لكنه مع ظهور حركة مزراحي عام 1902 بقيادة الحاخام أبراهام كوك (Abraham Isaac Kook)، دخل البعد الديني إلى الصهيونية بوضوح. ركزت الحركة على دمج الدين مع المشروع القومي، معتبرة أن إقامة الدولة اليهودية ليست مجرد هدف سياسي، بل خطوة لتحقيق النبوءات التوراتية. تأسست مستوطنات زراعية على أسس دينية، مع الالتزام بالطقوس الدينية اليهودية مثل شبات والأعياد اليهودية، ما أعطى الهجرة الثانية طابعًا قوميًا مقدسًا.
الانتداب البريطاني على فلسطين (1917–1948)
مع صدور وعد بلفور عام 1917، بدأ الانتداب البريطاني على فلسطين، ما أتاح للصهيونيين بناء مؤسسات الدولة المستقبلية. في هذه المرحلة، ظهرت الهاغانا والمنظمات العسكرية اليهودية، وهي مؤسسات علمانية في بنيتها لكنها استخدمت رموزًا دينية لرفع الروح المعنوية لدى السكان. في المقابل، صعدت الحركات الدينية المعارضة، مثل جماعات مزراحي وحباد، التي ركزت على التعليم الديني وإقامة مستوطنات في المناطق المقدسة، مثل القدس وخليل الرحمن. برز التوتر بين العلمانيين الراغبين بدولة مدنية وبين المتدينين الراغبين بدور ديني محوري في إدارة المجتمع.
المرحلة الأخيرة قبل إعلان الدولة (1940–1948)
تكثفت الهجرة اليهودية بعد الحرب العالمية الثانية والمحرقة، ما زاد الضغط السياسي لإقامة الدولة. بدأ النقاش حول دور الدين في الدولة المستقلة، حيث حاول مؤسسو الدولة، وعلى رأسهم دافيد بن غوريون (David Ben-Gurion، أول رئيس وزراء لإسرائيل)، إيجاد توازن بين العلمانية والهوية اليهودية القومية. أسست مؤسسات مؤقتة مثل الوكالة اليهودية والمجالس المحلية للمستوطنات لتكون نواة الدولة، مع إبقاء بعض الجوانب الدينية مثل الزواج والأنظمة الأسرية، ضمن نطاق محدود.
منذ أول هجرة، كانت فلسطين مسرحًا لتفاعل مستمر بين العلمانية والدين في الصهيونية، حيث وضعت هذه المراحل الأسس لصدام أو تداخل الدين والسياسة بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948، وجعلت العلاقة بين الدولة والدين قضية محورية منذ البداية.
الدين والدولة: من العلمانية إلى الهيمنة الدينية
عند إعلان دولة إسرائيل عام 1948، تم اعتماد نموذج علماني رسمي، حيث سعى مؤسسو الدولة، مثل دافيد بن غوريون (David Ben-Gurion، 1886–1973، أول رئيس وزراء لإسرائيل وأحد قادة الحركة الصهيونية العلمانية)، إلى فصل الدين عن الدولة بهدف بناء دولة حديثة تقوم على المؤسسات المدنية والقوانين العلمانية، مع الحفاظ على هوية يهودية قومية عامة. تمثل ذلك في وضع قانون أساسي غير ديني، وتنظيم مؤسسات الدولة على أسس إدارية وعسكرية ومدنية، مع توفير مساحة محدودة للدين في الشؤون العامة، مثل الإشراف على الزواج والديانة ضمن المجتمع اليهودي دون تدخل مباشر في السياسة.
مع ذلك، شكّلت حرب 1967 نقطة تحول مفصلية في العلاقة بين الدين والدولة. بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، أصبح الحديث عن "أرض إسرائيل" كأرض مقدسة مطلبًا دينيًا لا يمكن تجاوزه. الأراضي التي ضمتها إسرائيل كانت مرتبطة بالنبوءات التوراتية، ما أعطى للدين قوة فكرية وسياسية جديدة في النقاش حول مستقبل الدولة.
الحركات الدينية غير الصهيونية، مثل حركة "حباد" (Chabad-Lubavitch، حركة يهودية أورثوذكسية دولية تركز على نشر التوراة وتعليم القيم الدينية)، رأت في هذا التوسع بداية لتجسيد وعد الله للشعب اليهودي، معتبرة أن الدولة الإسرائيلية ليست الخلاص النهائي، بل أداة على طريق تحقيقه. هذا الرأي عزز شرعية النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة وأعطى تبريرًا دينيًا للسياسات التي كانت سابقًا موضوع خلاف سياسي محض.
في العقود التالية، أتاح هذا التحول لتيارات دينية صاعدة التغلغل في السياسة الإسرائيلية، مؤيدة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ورافضة أي تنازل عن هذه الأراضي في مفاوضات السلام المستقبلية. ومن أبرز مظاهر هذا النفوذ ظهور تحالف "غوش إيمونيم" (Gush Emunim، حركة يهودية دينية يمانية أسست عام 1974 لتشجيع الاستيطان في الأراضي المحتلة) والحركات الدينية اليمينية الأخرى، التي دمجت الدين مع السياسة الوطنية بشكل مباشر.
اليوم، يشكل هذا التيار الديني القوي في السياسة الإسرائيلية عامل ضغط مستمر على الحكومة، سواء في القرارات المتعلقة بالمستوطنات أو في رفض أي تسوية قد تتطلب التنازل عن الأراضي، مما يبرز التحول الكامل من دولة علمانية إلى دولة يتداخل فيها الدين مع صلب القرار السياسي، ويصبح الدين أداة لشرعنة الهيمنة الإقليمية والتوسع الاستيطاني.
التيارات الدينية والسياسة الإسرائيلية
الصهيونية الدينية الحديثة تقوم على ثلاثة عناصر مركزية تشكل الأساس الأيديولوجي لكل تحركاتها السياسية والاجتماعية: الشعب اليهودي، أرض إسرائيل، والتوراة. يُنظر إلى الشعب اليهودي باعتباره أمة مختارة، مرتبطة بمهمة تاريخية ودينية للحفاظ على إرثها. أما أرض إسرائيل فتُعتبر حقًا إلهيًا وموطنًا تاريخيًا لا يمكن التنازل عنه، وهو ما يبرر الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية ورفض أي تسوية سياسية تعتبر الأراضي المقدسة قابلة للتفاوض. التوراة تُستخدم كمرجع أخلاقي وقانوني، ليس فقط للطقوس الدينية، بل لتبرير القرارات السياسية التي تتعلق بالسيطرة على الأرض والحياة اليومية داخل الدولة.
على صعيد السياسة العملية، ظهرت عدة حركات وأحزاب دينية صهيونية لعبت دورًا متزايدًا في التأثير على الحكومة الإسرائيلية، منها:
حزب "البيت اليهودي" (The Jewish Home): حزب يميني ديني يركز على دعم المستوطنات في الضفة الغربية، وتعزيز القيم اليهودية في النظام التعليمي والقوانين المدنية، ويعتبر الحفاظ على الأراضي المحتلة واجبًا دينيًا.
حزب "اليمين الجديد" (The New Right): حركة تجمع بين الفكر الديني والسياسي، تدعو إلى تعزيز الاستيطان ورفض التنازل عن أي أراضٍ محتلة، مع التأكيد على دمج الشريعة اليهودية في الحياة العامة بشكل أكبر.
حزب "يهودوت هتوراة" (United Torah Judaism): حزب يهودي أورثوذكسي يركز على شؤون الدين والقوانين اليهودية، ويضمن تمثيل التيار الديني في البرلمان والحكومة، مع الدفاع عن مصالح المجتمع المتدين.
هذا التداخل بين الدين والسياسة أتاح للحركات الدينية الصهيونية نفوذًا متزايدًا، خصوصًا بعد انتخابات 2022، التي منحته قدرة على التأثير في تشكيل السياسة الداخلية والخارجية، بما في ذلك دعم الاستيطان، وتحديد السياسات تجاه الفلسطينيين، وممارسة ضغط على الحكومة لصالح دمج القيم الدينية في القوانين المدنية والتعليم والخدمات العامة.
كما أن هذه التيارات تدعم خطابًا أيديولوجيًا يربط بين الحق الديني في الأرض والسيطرة السياسية، مما يجعل أي تنازل عن الأراضي المقدسة أمرًا مرفوضًا دينيًا وأيديولوجيًا. هذا المزج بين الدين والسياسة ليس فقط سمة للأحزاب الدينية الصغيرة، بل أصبح عاملًا مؤثرًا في الاستقرار السياسي للحكومة الإسرائيلية وصياغة استراتيجياتها الإقليمية، وهو ما يفسر الصعوبات الكبيرة في تحقيق أي تسوية سلمية مع الفلسطينيين منذ عقود.
البُعد الديني في السياسات العسكرية الإسرائيلية
لم يقتصر تأثير الدين في إسرائيل على السياسة الداخلية فحسب، بل امتد بشكل واضح إلى السياسة العسكرية، حيث لعبت التيارات الدينية دورًا متزايدًا في توجيه الاستراتيجية واتخاذ القرارات العسكرية. بعد حرب 1967 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، أصبح الدين مرجعًا للعديد من القادة العسكريين والصهاينة الدينيين في تفسير دور إسرائيل في الأرض المحتلة، معتبرين الاحتلال والتوسع جزءًا من "الواجب الإلهي" لتحقيق وعد الله للشعب اليهودي.
الجيش الإسرائيلي، المعروف ب"الجيش الدفاعي الإسرائيلي" IDF، شهد تزايد وجود وحدات وأفراد من التيار الديني الصهيوني، مثل كتائب المستوطنين الدينيين والطلاب الحاخاميين الذين أدخلوا بعدًا روحانيًا في التدريب العسكري وفي الخطط العملياتية. هذا التوجه لم يقتصر على التدريب فقط، بل امتد ليشمل تخطيط العمليات العسكرية والسياسات الأمنية تجاه الفلسطينيين، بما في ذلك السيطرة على مناطق استراتيجية مثل القدس الشرقية والمستوطنات في الضفة الغربية.
أصبحت العمليات العسكرية تُبرر ليس فقط بالمصالح الأمنية أو الاستراتيجية، بل أيضًا بالأسس الدينية، حيث يرى بعض القادة الدينيين أن تحرير "أرض إسرائيل" من الفلسطينيين وضم الأراضي المحتلة يشكل تحقيقًا لوعد الله للشعب اليهودي. مثال على ذلك، المواقف الداعمة من الحاخامات لبعض العمليات العسكرية في الضفة الغربية، والتي ربطت بين السيطرة على الأرض وبين الواجب الديني، بالإضافة إلى دعم بعض القادة الدينيين للخطط العسكرية التي تهدف إلى حماية المستوطنات وتوسيعها.
هذا المزج بين الدين والسياسة العسكرية يجعل الصراع أكثر تعقيدًا ويزيد من صعوبة تحقيق تسوية سلمية، إذ لم تعد المفاوضات مجرد مسألة سياسية، بل تحتاج إلى توافق ديني–سياسي داخلي يرضي التيارات الدينية القوية، وهو أمر شبه مستحيل في غياب اتفاق أيديولوجي على الأرض. كما أن البعد الديني يزيد من شرعية سياسات التوسع والاستيطان العسكري داخليًا لدى الإسرائيليين، ويؤطر العمليات العسكرية في إطار رؤية مقدسة للتاريخ والوجود القومي، مما يعقد أي حلول سياسية أو أمنية طويلة الأمد للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
-
تأثير الدين على التشريعات والمجتمع الإسرائيلي
الدين اليهودي يشكل عنصرًا محوريًا في الإطار القانوني والاجتماعي لإسرائيل منذ تأسيس الدولة، حيث يُستخدم لتحديد هوية الدولة وتعريف مواطنيها، ولتنظيم حياتهم اليومية وفقًا للتقاليد الدينية. أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو "قانون العودة" (The Law of Return، 1950)، الذي يمنح كل يهودي، بغض النظر عن مكان ولادته أو إقامته، الحق في الهجرة إلى إسرائيل والحصول على الجنسية تلقائيًا. يعتمد القانون على مفهوم الهوية اليهودية الدينية كأساس للانتماء إلى الدولة، ما يعكس التقاء الدين بالقومية في التشريع.
على صعيد آخر، يلعب الدين دورًا مركزيًا في تنظيم المسائل الاجتماعية والشخصية. فالزواج والطلاق، على سبيل المثال، يخضعان حصريًا للمحاكم الدينية اليهودية (Rabbinical Courts)، التي تطبق الشريعة اليهودية في هذه القضايا. هذا يعني أن جميع المواطنين اليهود لا يمكنهم الزواج أو الطلاق إلا وفقًا للقوانين الدينية، بينما يُترك للديانات الأخرى محاكمها الخاصة. هذا الوضع يعكس قدرة الدين على تشكيل البنية الداخلية للدولة وإحكام سيطرته على حياة الأفراد اليومية، ويمنح الحاخامات نفوذًا قانونيًا واجتماعيًا ملموسًا.
بالإضافة إلى ذلك، تؤثر الحركات الدينية على السياسات العامة والحقوق المدنية. على سبيل المثال:
الرقابة على الطعام الحلال (كشروت) في المؤسسات العامة والمطاعم، لتطبيق القواعد الدينية في المجتمع.
القوانين المتعلقة بـالسبت (شبات)، التي تفرض قيودًا على العمل والنقل في الأيام المقدسة، وتؤثر على الاقتصاد والحياة اليومية.
التعليم الديني، حيث تلعب المدارس الدينية والصهيونية الدينية دورًا كبيرًا في غرس الهوية اليهودية والقيم الدينية ضمن المناهج، مما يعزز التأثير طويل المدى للدين على المجتمع.
الدين كعمود فقري للأيديولوجيا الصهيونية المعاصرة
البُعد الديني في قيام دولة الكيان الصهيوني لم يكن مجرد جانب تعبوي أو رمزي، بل يشكل العمود الفقري للأيديولوجيا الصهيونية المعاصرة. منذ أولى موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مرورًا بالصهيونية الدينية التي أسسها الحاخام أبراهام كوك وحركة مزراحي، وصولًا إلى تأسيس الدولة في 1948، ظل الدين يلعب دورًا محوريًا في تحديد الهوية القومية، توجيه السياسات، وصياغة القوانين.
على الصعيد الداخلي، أثر الدين على التشريعات والمجتمع بشكل مباشر، من خلال قوانين مثل "قانون العودة" الذي يربط الجنسية بالهوية الدينية، واحتكار الزواج والطلاق في المحاكم الدينية اليهودية، والسيطرة على التعليم والسبت والغذاء. هذا الهيكل القانوني والاجتماعي يعكس قوة الدين في تشكيل بنية الدولة من الداخل، ويضمن استمرار نفوذ الحركات الدينية في كل مستويات القرار.
أما على صعيد السياسة العسكرية، فقد امتد تأثير الدين ليشمل الاستراتيجية العسكرية والعمليات على الأرض. لقد أضفى التيار الديني في الجيش الإسرائيلي بعدًا روحانيًا على القرارات العملياتية، حيث تُبرر العمليات في الضفة الغربية وقطاع غزة ليس فقط بمصالح الأمن القومي، بل كتنفيذ لما يُنظر إليه على أنه واجب إلهي وتطبيق للنبوءات التوراتية. هذا المزيج بين الدين والسياسة العسكرية يجعل من الصراع مع الفلسطينيين أكثر تعقيدًا، ويجعل المفاوضات السلمية شبه مستحيلة في غياب توافق ديني–سياسي داخلي.
تتجلى هذه الأبعاد اليوم في السياسات الحالية لإسرائيل تجاه غزة وفلسطين، خاصة بعد التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والتي أكّد فيها على أن "السيطرة على الأرض ومواجهة الفلسطينيين جزء من مسؤولية الحفاظ على مستقبل إسرائيل الكبرى". يشير هذا الخطاب إلى رؤية "إسرائيل الكبرى" (Greater Israel) التي لا تقتصر على حدود 1948، بل تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة كمناطق استراتيجية ودينية، وهو ما يتوافق مع المشروع الصهيوني الديني الذي يرى في الأرض حقًا إلهيًا لا يمكن التنازل عنه.
الحركات الدينية السياسية مثل حزب "البيت اليهودي"، و"اليمين الجديد"، و"يهودوت هتوراة"، تلعب دورًا محوريًا في فرض هذه الرؤية على الحكومة الإسرائيلية، مؤثرة على السياسات الداخلية والخارجية، وداعمة للاستيطان والتوسع العسكري، ورافضة أي تسوية مع الفلسطينيين. وهذا يوضح كيف أن الدين ليس مجرد عامل ثقافي أو رمزي، بل أداة سياسية واستراتيجية قوية تشكل جميع مستويات القرار في الدولة.
إدراك هذا البعد الديني ضروري لفهم تصرفات إسرائيل الحالية في غزة والضفة الغربية، سواء في الحصار العسكري، العمليات العسكرية، أو الاستيطان المكثف. كما يكشف أن مشروع إسرائيل السياسي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاعتبارات الدينية والتوراتية، وليس مجرد أهداف قومية أو سياسية بحتة. وبالتالي، فإن أي تحليل للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، أو لمحاولات التسوية المستقبلية، لا يمكن أن يتجاهل التأثير الديني العميق على السياسات العسكرية، التشريعية، والاجتماعية، وما يترتب على ذلك من صعوبة تحقيق سلام مستدام في المنطقة.