على وقع أصوات مدافع المياه ودخان الإطارات المشتعلة، شهدت تل أبيب مساء الأحد مشهدًا غير مسبوق في تاريخ الصراعات الداخلية الإسرائيلية: أكثر من نصف مليون مواطن خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات وإضرابات عامة، مطالبين الحكومة بوقف الحرب على غزة فورًا وإعادة الأسرى الفلسطينيين المحتجزين. العاصمة الإسرائيلية تحوّلت إلى ساحة مواجهة مدنية مفتوحة، حيث غلق المتظاهرون الطرق الرئيسية والطرق السريعة، وتجمعوا أمام مقرات حزب "الليكود"، وأشعلوا النيران وواجهوا الشرطة التي استخدمت مدافع المياه والرصاص المطاطي لتفريقهم.
وفقًا لبيانات "منتدى عائلات الأسرى"، شارك نحو 500 ألف شخص في ساحة الأسرى والمناطق المحيطة بها. وأشارت مصادر محلية إلى أن الاحتجاجات شملت القدس وعددًا من المدن الكبرى، حيث أغلق المتظاهرون الشوارع الرئيسية وقطعوا خطوط النقل، في تكرار لمظاهرات تاريخية شهدتها إسرائيل، لكنها الأكبر من نوعها منذ عقود.
الاحتجاجات لم تقتصر على المواطنين العاديين، بل شهدت انضمام بلديات رئيسية وتنظيمات شعبية مثل "منتدى عائلات الأسرى" و"مجلس أكتوبر"، التي لعبت دورًا محوريًا في حشد الدعم الشعبي للضغط على الحكومة لإبرام صفقة شاملة للإفراج عن الأسرى. هذه الكتل المدنية اعتبرت أن استمرار الحرب يخدم مصالح حماس ويزيد من معاناة المدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
الحكومة الإسرائيلية أكدت أن الدعوات لوقف الحرب قبل تحقيق أهدافها تقوي موقف حماس وتؤخر استعادة الأسرى، معتبرة أن الضغط الشعبي لن يغير من الخطط العسكرية للجيش. في المقابل، وصف زعيم المعارضة يائير لبيد الحكومة الحالية بأنها أخطر ما يضعف الموقف الإسرائيلي داخليًا وخارجيًا، مطالبًا بوقف الحرب فورًا والسعي إلى صفقة تبادل أسرى عاجلة.
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، صرح بأن المرحلة التالية من العملية العسكرية، المعروفة بـ"عربات جدعون"، ستستهدف تعميق الضربات ضد حركة حماس في غزة، مشيرًا إلى أن الحركة فقدت جزءًا كبيرًا من قدراتها وتعاني أضرارًا جسيمة على صعيد البنية التحتية العسكرية والتنظيمية.
تأتي الاحتجاجات في ظل تصاعد الفشل الحكومي في إيجاد حل لإنهاء الحرب واستعادة الأسرى، وهو ما أدى إلى توتر داخلي غير مسبوق. النزاع العسكري في غزة لم يقتصر تأثيره على القطاع الفلسطيني، بل انعكس مباشرة على الداخل الإسرائيلي، حيث بدأ الشارع يشعر بثقل الحرب المستمرة وفشل الحكومة في تلبية مطالب الأسرى وذويهم.
الضغوط الداخلية تتزامن مع ضغوط دولية متزايدة على إسرائيل، خصوصًا من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، التي طالبت بتوفير حماية للمدنيين الفلسطينيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية. بينما يحذر قادة الحكومة من أن إنهاء العمليات العسكرية قبل حسمها قد يقوي موقف حماس، يرى زعماء المعارضة أن استمرار الحكومة الحالية يضعف موقف الدولة داخليًا وخارجيًا، ويزيد من استياء الشارع.
تأثير الحرب على الشارع الإسرائيلي والفلسطيني:
الاحتجاجات تكشف تصدعًا واضحًا بين السلطة والمجتمع المدني الإسرائيلي، وتبرز انقسامات حادة في الرأي العام حول الحرب. في المقابل، يواصل قطاع غزة تحمل وطأة القصف المستمر، ما يؤدي إلى أزمة إنسانية متصاعدة تشمل نقص الغذاء والدواء والمياه، مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين.
وشهدت إسرائيل على مدى سنوات موجات احتجاجية محدودة ضد السياسات الحكومية، لكنها لم تشهد قط احتجاجات جماهيرية بهذا الحجم ضد حرب مستمرة. الأزمة الحالية تعكس تصاعد الاستياء الشعبي نتيجة استمرار العمليات العسكرية في غزة، وفشل الحكومة في تحقيق أهدافها المعلنة، خاصة استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس.
الأسرى والمعتقلون شكلوا العامل الأساسي في تحريك الشارع، حيث لعبت تنظيمات مثل "منتدى عائلات الأسرى" و"مجلس أكتوبر" دورًا محوريًا في حشد الدعم الشعبي للضغط على الحكومة. الاستياء الشعبي من استمرار الحرب الطويلة دون نتائج ملموسة أدى إلى فقدان الثقة في الحكومة، وهو ما انعكس في المشاركة الكبيرة في المظاهرات. في الوقت نفسه، يرى زعماء المعارضة أن الحكومة الحالية تشكل أخطر تهديد لموقف إسرائيل داخليًا وخارجيًا، ما أضاف بعدًا سياسيًا للأزمة.
على الصعيد العسكري، يواصل الجيش الإسرائيلي عملياته المكثفة ضمن ما يُعرف بعملية "عربات جدعون"، مستهدفًا البنية التحتية لحركة حماس في غزة وتقليص قدراتها العسكرية والتنظيمية. ورغم نجاح العمليات جزئيًا، يظل الضغط الشعبي المتصاعد يشكل تحديًا أمام الجيش، وقد يؤثر على نطاق العمليات وروح المعنوية للقوات.
الأزمة الإنسانية تمثل بعدًا آخر مهمًا، حيث يعاني قطاع غزة من نقص الغذاء والدواء والمياه، مع ارتفاع عدد الشهن. في المقابل، يشعر الشارع الإسرائيلي بثقل الحرب وتأثيراتها على الأسرى والأمن الداخلي، مما ساهم في اندلاع المظاهرات وانتشارها بشكل واسع.
على الصعيد الدولي، تتزايد الضغوط على إسرائيل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لضمان حماية المدنيين الفلسطينيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية. استمرار الاحتجاجات الداخلية يزيد من هشاشة الموقف الإسرائيلي على الساحة الدولية، ويضع الحكومة أمام تحدٍ مزدوج: تحقيق أهدافها العسكرية في غزة، وفي الوقت نفسه الاستجابة لمطالب المجتمع المدني والضغط الدولي المتنامي.
الاحتجاجات في تل أبيب تمثل انعكاسًا لأزمة متعددة المستويات. على الصعيد السياسي الداخلي، تكشف عن ضعف الثقة بين الحكومة والمجتمع المدني، وتصاعد الانقسامات بين السلطة والمعارضة، حيث ترى المعارضة أن استمرار الحكومة الحالية يضعف الموقف الداخلي والخارجي لإسرائيل.
أما على الصعيد العسكري الخارجي، فالتظاهرات والضغط الشعبي تؤثر على قدرة الجيش على مواصلة العمليات بحرية، وقد تحد من نطاق الهجمات ضد البنية التحتية لحركة حماس، ما يخلق توترًا بين الأهداف العسكرية والسياسة الداخلية.
من الناحية الاجتماعية والمدنية، تعكس الاحتجاجات دور المجتمع المدني في التأثير على صنع القرار، وتبرز الكتل الشعبية والتنظيمات المدنية كقوى ضاغطة فعالة، مطالبة بالحلول العاجلة لإعادة الأسرى وحماية المدنيين، وهو ما يزيد من صعوبة الموازنة بين مطالب الشعب وأولويات الحكومة.
أما البعد الإنساني، فهو كارثي، إذ يظل قطاع غزة تحت وطأة القصف المستمر، مع ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين ونقص الإمدادات الأساسية، بينما يشعر الشارع الإسرائيلي بثقل الحرب وفشل الحكومة في تلبية احتياجات الأسرى وعائلاتهم.
في المجمل، تظل المعضلة الأساسية للحكومة الإسرائيلية هي كيفية الموازنة بين الاستمرار في العمليات العسكرية وتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وبين الاستجابة للمطالب الشعبية والضغط الدولي المتصاعد، في ظل أزمة إنسانية متفاقمة في غزة وأزمة سياسية واجتماعية متزايدة داخل إسرائيل.