في واحدة من أكثر العبارات وضوحًا وصدامًا منذ اندلاع الحرب على غزة، أعلنت وزارة الخارجية المصرية أن القاهرة أجرت اتصالات مباشرة مع دول طُرحت كوجهات محتملة لتوطين الفلسطينيين، بهدف التحقق من حقيقة المفاوضات الجارية بين إسرائيل وتلك الدول. البيان الذي صدر عن الخارجية المصرية لم يكتفِ برفض فكرة التهجير واعتبارها "جريمة حرب وتطهيرًا عرقيًا"، بل كشف صراحة أن مصر دخلت في سباق دبلوماسي مفتوح لقطع الطريق على هذه المخططات.
اتصالات تكشف المستور
بيان القاهرة أوضح أن الاتصالات مع الدول التي "تردّد" قبولها باستضافة الفلسطينيين، أسفرت عن نفي رسمي من جانبها. وأرفق البيان تحذيرًا قاطعًا بأن "أي مشاركة في هذا المشروع الإجرامي ستجعل الطرف شريكًا في جريمة تطهير عرقي وخرقًا لاتفاقيات جنيف الأربع".
اللافت أن هذه الصياغة المصرية تؤكد ضمناً ما نشرته وول ستريت جورنال ورويترز وCNN خلال الأيام الماضية، حول مفاوضات إسرائيلية مع جنوب السودان وليبيا وأرض الصومال وسوريا، بغطاء أميركي، لإعادة توطين سكان من غزة. بل إن جنوب السودان كان قد أعلن رسميًا قبل يومين رفضه استقبال الفلسطينيين.
مواجهة مصرية – إسرائيلية
الموقف المصري الأخير لم يكن مجرد رد دبلوماسي روتيني، بل تجلّى كرسالة سياسية صلبة في ظل توتر متصاعد مع تل أبيب. فوفق تقارير عبرية، شهدت اجتماعات مغلقة خلال الأسابيع الماضية "مشادات كلامية" غير مسبوقة بين مسؤولين مصريين وإسرائيليين، بعدما حاولت الأخيرة إعادة طرح سيناء كخيار أولي لتهجير سكان غزة.
القاهرة، التي خبرت هذا السيناريو منذ عقود، ردّت بلهجة قاطعة، أعادت تكرار عبارتها التي باتت عنوانًا للسياسة المصرية: "لن نسمح بتهجير الفلسطينيين، قسرًا أو طوعًا، عبر سياسات التجويع والاستيطان ومصادرة الأراضي." لكن هذه ليست مجرد عبارة، بل موقف مؤسّس على قناعة استراتيجية مفادها أن تمرير مشروع التهجير يعني ببساطة انهيار الأمن القومي المصري من بوابته الشرقية، وتحويل سيناء إلى ساحة انفجار ديموغرافي وأمني دائم.
إسرائيل من جانبها تواصل اختبار صلابة الموقف المصري، سواء عبر تسريب مقترحات تتحدث عن "الحل الإنساني في سيناء"، أو عبر ضغوط غير مباشرة تمارسها من خلال واشنطن. لكن القاهرة، مدفوعة بثقلها التاريخي وموقعها كضامن أساسي للمعادلة الفلسطينية، تبدو أكثر تصميمًا على رسم "خط أحمر" في وجه هذه الطروحات، معتبرة أن أي محاولة لتجاوز هذا الموقف لن تفتح فقط مواجهة مع مصر، بل ستدفع المنطقة نحو تصعيد إقليمي أوسع قد يتجاوز حدود غزة.
بهذا المعنى، تتحول المواجهة المصرية – الإسرائيلية من سجال سياسي إلى معركة سيادة، حيث تسعى القاهرة لإثبات أن أمنها القومي ليس مجالاً للمساومة، فيما تراهن تل أبيب على استنزاف الضغوط والوقت لصالح مشروعها. وبين الطرفين، تتبلور معادلة جديدة قد تعيد رسم حدود الصراع العربي – الإسرائيلي برمته.
معركة دبلوماسية مفتوحة
ما خرج إلى العلن اليوم لا يقتصر على سجال إعلامي أو تصريحات متبادلة، بل يعكس بداية معركة دبلوماسية شاملة، ساحتها العواصم الأفريقية والآسيوية المرشحة لاستضافة الفلسطينيين المهجّرين. أدوات هذه المعركة ليست الصواريخ ولا الدبابات، بل خليط من الضغط السياسي، المساعدات الفنية، والرهانات على العلاقات التاريخية الممتدة منذ زمن حركات التحرر.
القاهرة تتحرك منفردة حتى الآن، مدفوعة بقناعة أن منع التهجير يبدأ من إغلاق الأبواب أمام أي دولة قد تُغريها الوعود الأميركية. لذلك، يركّز الدبلوماسيون المصريون على التذكير بأن التورط في استقبال الفلسطينيين ليس "عملاً إنسانيًا"، بل مشاركة في جريمة تهجير قسري تحمل تبعات قانونية وأخلاقية قد تلاحق الحكومات أمام المحاكم الدولية والرأي العام.
في المقابل، تُدرك واشنطن وتل أبيب أن رفض مصر وحده قد لا يكون كافيًا، لذا تستعدان لتوظيف أدوات الإغراء والضغط معًا: وعود بمساعدات تنموية، قروض ميسّرة، وحتى دعم سياسي في ملفات حساسة لتلك الدول داخل المؤسسات الدولية. ويخشى مراقبون أن تتحول بعض العواصم الأفريقية إلى ساحة مساومات، حيث يتم اختبار قدرتها على الموازنة بين حاجتها للمساعدات الغربية ورفضها للتورط في مشروع يصفه القانون الدولي بأنه "تطهير عرقي".
بهذا المعنى، تصبح الأزمة معركة إرادات دبلوماسية لا تقل خطورة عن المواجهة العسكرية في غزة. فمن يكسب هذه الجولة لن يحدد فقط مصير مليونَي فلسطيني، بل سيرسم حدود الشرعية الدولية ذاتها: هل تظل حائط صد أمام مشاريع التهجير، أم تتحول إلى أداة لتسويقها؟
مشروع قديم يتجدد
فكرة تهجير الفلسطينيين ليست وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى عقود مضت، كلما واجه الاحتلال مأزقًا ديمغرافيًا أو سياسيًا في الأراضي الفلسطينية. منذ نكبة 1948 ومحاولات دفع الفلسطينيين خارج وطنهم لم تتوقف، وإن تغيّرت التسميات والأدوات.
في العقود الأخيرة، برزت سيناء مرارًا كخيار مفضل لدى دوائر إسرائيلية، وهو ما رفضته القاهرة في كل مرة باعتباره مساسًا مباشرًا بالأمن القومي المصري. ومع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أخذت الفكرة بُعدًا أكثر تنظيماً عبر ما سُمي بـ"ريڤيرا الشرق الأوسط"، وهو مشروع غير معلن بالكامل، يقوم على إعادة توطين فلسطينيين في دول أفريقية وآسيوية مثل صوماليلاند وإثيوبيا، إلى جانب إندونيسيا التي سارعت حينها إلى رفض الفكرة بشكل قاطع.
لاحقًا، أعادت الحكومة الإسرائيلية في أكثر من مناسبة إحياء هذه التصورات، تارةً تحت لافتة "التهجير الطوعي"، وتارةً عبر سياسات "جعل الحياة في غزة مستحيلة" من خلال الحصار والتجويع والقصف المستمر.
الجديد في المشهد الحالي أن هذه المخططات خرجت من إطار "التسريبات" والوثائق الجانبية إلى مفاوضات معلنة برعاية أميركية، مع دول مثل جنوب السودان وليبيا وأرض الصومال وسوريا، وهو ما أكدته الصحف الأميركية والغربية خلال الأيام الأخيرة. ويشير مراقبون إلى أن واشنطن تحاول استخدام أدوات الضغط والإغراء المالي لتمرير هذه الخطط، بينما تتحرك القاهرة لقطع الطريق عبر اتصالات مباشرة مع تلك الدول.
وبذلك، يصبح المشهد امتدادًا لتاريخ طويل من محاولات تفريغ الأرض الفلسطينية من أصحابها، تُواجَه اليوم بمعركة دبلوماسية مفتوحة تقودها مصر، وسط إجماع عربي ودولي متنامٍ على أن أي تهجير – سواء قسري أو "طوعي" – ليس سوى وجه جديد لمشروع تصفية القضية الفلسطينية.
اليوم، فنحن أمام تطور نوعي بالغ الخطورة. فالموضوع لم يعد تسريبًا أو مقترحًا في ورقة بحثية، بل تحول إلى مفاوضات رسمية برعاية أميركية مباشرة، تجري مع حكومات في أفريقيا والشرق الأوسط، وفق ما كشفته صحف ووكالات كبرى مثل وول ستريت جورنال ورويترز وCNN. الأهم من ذلك أن هذه المفاوضات لم تُنفَ رسميًا من الجانب الإسرائيلي أو الأميركي، بل جاء الرد على هيئة تبريرات عن "البحث في حلول إنسانية".
كما أن اللغة تغيّرت. لم يعد الحديث عن "طرد" أو "تهجير قسري" بشكل فجّ، وإنما عن "إعادة توطين طوعي"، أو "فتح ممرات إنسانية"، أو "إتاحة فرص حياة أفضل للفلسطينيين في الخارج". هذه المصطلحات الجديدة ليست سوى إعادة إنتاج لسياسات التهجير، لكن في ثوب قانوني وإنساني زائف، يهدف إلى الالتفاف على رفض الرأي العام الدولي لأي مشروع تطهير عرقي.
من زاوية أخرى، فإن ميزان القوى تغيّر أيضًا. إسرائيل اليوم مدعومة بشكل أوضح من الولايات المتحدة، التي لا تكتفي بغض الطرف كما في العقود السابقة، بل تتحرك فعليًا لإقناع دول بعينها بالدخول في المخطط. وفي المقابل، تتحمل مصر العبء الأكبر في التصدي لهذه المحاولات، ليس فقط برفضها التهجير عبر سيناء، بل أيضًا بانخراطها في اتصالات مباشرة مع الدول المستهدفة لقطع الطريق على إسرائيل.
وعليه، فإن ما يجري اليوم يمثل انتقالًا من "المشاريع الهامشية" التي لطالما أُحبطت سريعًا في الماضي، إلى خطة معلنة ذات أبعاد إقليمية ودولية، وهو ما يجعل المواجهة أكثر تعقيدًا، ويطرح السؤال: هل يستطيع الرفض العربي والدولي المتنامي كبح هذا المسار، أم أن واشنطن وتل أبيب ستنجحان في شق طريقهما عبر إغراءات وضغوط متواصلة؟
البعد القانو التهجير جريمة حرب لا تسقط بالتقادم
من الناحية القانونية، لا يترك القانون الدولي أي مساحة للجدل في مسألة تهجير السكان من أراضيهم. فالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة (1949) تنص بوضوح على حظر النقل القسري أو الجماعي للأشخاص من الأراضي المحتلة، سواء داخلها أو إلى خارجها، وتعتبر أي مخالفة لذلك جريمة حرب.
الأخطر أن القانون الدولي لا يفرّق بين التهجير "القسري" أو ما يُطلق عليه "الطوعي"، إذا كان يجري في سياق ضغوط غير إنسانية مثل الحصار والتجويع وتدمير البنية التح
تية. بمعنى أن سياسات إسرائيل في غزة – من التجويع الممنهج، وقصف المستشفيات، وتدمير المساكن – تُصنَّف أدوات غير مباشرة لفرض التهجير، وبالتالي تُعتبر انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني.
إضافة إلى ذلك، يصف نظام المحكمة الجنائية الدولية (روما 1998) الترحيل أو النقل القسري للسكان بأنه جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكب في إطار هجوم واسع أو منهجي ضد المدنيين. وهذا يعني أن أي دولة تشارك في استقبال الفلسطينيين ضمن هذا المخطط قد تجد نفسها عرضة للمساءلة أمام المحاكم الدولية، كونها طرفًا مباشرًا في الجريمة.
وهنا تكمن أهمية البيان المصري الأخير: فالقاهرة لم تكتفِ برفض سياسي أو أخلاقي، بل وضعت الدول "المُستهدفة" أمام مسؤولية تاريخية وقانونية، محذرة من أنها قد تُسجَّل في التاريخ كشركاء في جريمة تطهير عرقي. هذه اللغة القاطعة لا تحمل فقط دلالات سياسية، بل أيضًا رسالة قانونية استباقية تمهّد لاستخدام أدوات التقاضي الدولي، سواء عبر مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية في لاهاي.
التداعيات على الداخل الفلسطيني
لا تقتصر خطورة مشروع التهجير على البعد السياسي أو القانوني فحسب، بل تمتد إلى المجتمع الفلسطيني نفسه الذي يعيش اليوم تحت وطأة حرب مدمّرة.
الفلسطينيون، الذين خبروا النكبة عام 1948 والنكسة عام 1967 وما تبعهما من موجات لجوء وشتات، يدركون أن أي "خروج جديد" من غزة سيكون بلا عودة، وأنه يشكّل عمليًا تصفية نهائية للقضية. لهذا السبب، يصرّ الشارع الفلسطيني – بمختلف توجهاته – على رفض أي حديث عن "توطين بديل" أو "حلول إنسانية خارج الحدود".
على المستوى السياسي، ترى الفصائل الفلسطينية في هذه المخططات محاولة لفرض أمر واقع جديد، عبر تفريغ غزة من سكانها وربط القضية فقط بملف القدس والضفة. بعض الفصائل حذّرت علنًا من أن مجرد طرح التهجير "يفجّر الأرض تحت أقدام الجميع"، معتبرة أن مواجهة هذا السيناريو لا تقل أهمية عن مواجهة العدوان العسكري.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن تهديد التهجير يعمّق الشعور بانعدام الأمان الوجودي لدى الفلسطينيين، ويزيد من حالة التمسّك بالأرض كمصدر هوية لا يقبل التفريط. شهادات من داخل القطاع تظهر أن عائلات فضّلت البقاء تحت القصف والحصار على مغادرة بيوتها، إدراكًا منها أن أي نزوح – مهما بدا مؤقتًا – قد يتحول إلى لجوء دائم كما حدث مع أجيال اللاجئين السابقين.
إجمالًا، فإن هذه المخططات لا تواجه فقط مقاومة دبلوماسية من مصر والعالم العربي، بل أيضًا رفضًا شعبيًا فلسطينيًا مطلقًا، يعكس قناعة راسخة بأن التهجير، أياً كان شكله أو مسمّاه، يعني شطب الوجود الفلسطيني من الخريطة.
تداعيات إقليمية ودولية
لا تبدو الأزمة قابلة للاحتواء بين القاهرة وتل أبيب؛ إذ تتدحرج سريعًا نحو اشتباك دبلوماسي متعدد المستويات يطال الأمم المتحدة، النظام العربي، أفريقيا، وأوروبا، مع ارتدادات على أمن البحرين المتوسط والأحمر، ومسارات الطاقة واللاجئين.
1) جبهة الأمم المتحدة والقانون الدولي
انخراط القاهرة العلني يفتح الباب لتفعيل مسارات متوازية: إحالة الملف إلى الجمعية العامة بحثًا عن أغلبية سياسية رافضة، ومخاطبة مجلس الأمن ولو مع إدراك معضلة الفيتو، بالتوازي مع تحضير ملفات قانونية لـمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية حول حظر النقل القسري واعتبار “التهجير الطوعي تحت الإكراه” جريمة حرب/جريمة ضد الإنسانية. اللغة المتشددة في بيان الخارجية المصرية—الذي حذّر الدول من “التورط في جريمة تطهير عرقي وخرق صريح لاتفاقيات جنيف”—تصيغ أرضية اتهامية مُسبقة لأي طرف يتعاون مع المخطط.
2) الأمن القومي العربي: مصر والأردن في الواجهة
تصر القاهرة أن أي سيناريو تهجير عبر سيناء خط أحمر، وتتعامل معه كتهديد مباشر لمعادلة الأمن في شمال سيناء وحدود غزة/رفح، ولمنع خلق “قضية لاجئين جديدة” دائمة يصعب عكسها لاحقًا. الأردن بدوره يرى أن أي “وطن بديل” يمسّ أمنه القومي وتركيبته السكانية ويقوّض حل الدولتين. هذا يجعل محور القاهرة–عمّان مركز ثقل في إحباط المسار، مع تنسيق عربي لردع محاولات تدوير الفكرة تحت مسميات إنسانية. (تحليل يستند لخط البيانات العربية والأوروبية الرافضة ولمضمون بيان القاهرة الأخير).
3) أفريقيا… ساحة المعركة الدبلوماسية
المفاوضات أو “جسّ النبض” مع دول أفريقية—وخاصة جنوب السودان—أخرجت أفريقيا إلى قلب المشهد. نفي جوبا الرسمي المشاركة أو إجراء محادثات يعكس نجاح تحرك دبلوماسي مضاد ويُحرج السردية الإسرائيلية/الأميركية حول “التوطين الطوعي”. استمرار القاهرة في الاتصالات المباشرة مع العواصم الأفريقية يراهن على مزيج الضغط السياسي والمساعدات الفنية وتاريخ العلاقات، بينما قد تواصل واشنطن محاولة الإغراء بحِزم دعم. أي تراجع علني من دول محورية (مثل جنوب السودان) يُفقد الخطة زخم “كرة الثلج”.
4) أوروبا والغرب: كلفة التواطؤ القانونية والسياسية
الموقف الأوروبي العام يميل لرفض التهجير بوصفه انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، خصوصًا مع حساسية الرأي العام بعد عامين من حرب غزة. أي انخراط أوروبي—مباشر أو غير مباشر—في “إعادة توطين” خارج فلسطين قد يفتح ملفات مساءلة داخل البرلمانات والمحاكم الوطنية والأوروبية، ويُضعف ادعاء الاتساق مع دعم أوكرانيا وقانونية عدم تغيير الحدود بالقوة. هذا يُرجّح دفع العواصم الأوروبية نحو خطوط حمراء أوضح ضد أي ترتيبات تهجير جماعي. (استنادًا إلى التغطيات الغربية التي وصفت الخطة بالتطهير العرقي المحتمل).
5) الولايات المتحدة: الإغراءات والاصطدام بالشرعية
تقديم المسار كـ“حل إنساني طوعي” يمنح واشنطن لغة تبريرية لتجنّب تهمة التهجير القسري، لكنه يصطدم بنصوص جنيف وروما عند اقترانه بحصار وتجويع وقصف يجعل “الطوعية” مُلغاة عمليًا. داخليًا، يُتوقع جدل حاد في الكونغرس والإعلام حول مخاطر التورط في جريمة دولية، ما قد يقيّد قدرة الإدارة على تحويل “أفكار جسّ النبض” إلى اتفاقات قابلة للتنفيذ.
6) إسرائيل وسردية “الهندسة الديمغرافية”
تُظهر التقارير أن تل أبيب تدفع قُدمًا باتصالات لإعادة توطين فلسطينيين في جنوب السودان أو ليبيا، مع ذكر كيانات/أقاليم أخرى (أرض الصومال، سوريا) بدرجات تقدّم متفاوتة. الهدف الاستراتيجي: تفريغ غزة من جزء من سكانها وتثبيت أمر واقع أمني–ديمغرافي يصعب التراجع عنه. كل نفي أفريقي أو عربي يرفع كلفة السردية الإسرائيلية ويجبرها على التموضع الدفاعي أمام المحافل الدولية.
7) ليبيا وأمن الساحل والمتوسط
زَجّ ليبيا كوجهة محتملة، في ظل هشاشة مؤسساتها وتعدد مراكز القوة، يحوّل ملف التهجير إلى مُهدِّد لاستقرار الساحل والمتوسط: شبكات تهريب، موجات هجرة عشوائية نحو أوروبا، وارتدادات أمنية على دول الجوار. أي تفاهمات غير مستقرة في ليبيا ستكون سريعة الانفجار وقد تتحول إلى أزمات إنسانية مركّبة جديدة. (تحليل معطوف على التقارير التي ذكرت ليبيا كمسار تفاوضي).
8) البحر الأحمر وسلاسل الإمداد
تثبيت واقع تهجير أو حتى تصعيد ضغوطه يُفاقم هشاشة الملاحة في البحر الأحمر ويهدد خطوط الشحن عبر باب المندب–السويس، ما ينعكس على تكاليف التأمين وسلاسل الإمداد، ويضع شركاء إقليميين وغربيين أمام مفاضلة قاسية بين “تسهيل حل قصير الأمد” وبين كلفة عدم الاستقرار البحري والحدودي طويلًا—خاصة على مصر بوصفها دولة معبر. (استنتاج استراتيجي مرتبط بوزن قناة السويس والدور المصري).
9) المخاطر القانونية للدول “المُستقبِلة”
حتى لو قُدمت كـ“استضافة إنسانية طوعية”، فإن بيئة الإكراه (حصار/قصف/تجويع) تُفقد “الطوعية” معناها القانوني؛ وبالتالي قد تُحمِّل أي دولة تستقبل موجات مُنظّمة مسؤولية التواطؤ في نقل قسري يخالف جنيف الرابعة وقد يرقى لجرائم ضد الإنسانية بنظام روما. هذا يفسر حِرص بيانات أفريقية—مثل نفي جنوب السودان—على قطع الطريق قانونيًا وأخلاقيًا مبكرًا.
10) ترسيم خطوط مواجهة دبلوماسية جديدة
خلاصة المشهد: نحن أمام معركة اصطفافات. محور رافض يقوده مصريًا بيانٌ شديد اللهجة إلى العواصم، مدعوم برفض عربي وأوروبي متزايد، في مقابل مسار إسرائيلي–أميركي يحاول تدوير الفكرة كحل إنساني. كلما اتسعت دائرة النفي الأفريقي والعربي، تراجعت قابلية الخطة للتحول من “استكشاف” إلى “تنفيذ”، وتعاظمت كلفة المضي فيها سياسيًا وقانونيًا.
صراع الإرادات.. من غزة إلى عواصم العالم
هكذا تتحول أزمة غزة إلى صراع إرادات يتجاوز الميدان العسكري. إسرائيل والولايات المتحدة تبحثان منفذًا لتفريغ القطاع من سكانه، بينما مصر تتحرك لقطع الطريق دبلوماسيًا، مدفوعة بقناعة أن أي تهجير – قسري أو "طوعي" – يعني ببساطة تصفية القضية الفلسطينية.
المعركة خرجت إلى العلن، وأطرافها اليوم ليست فقط إسرائيل وغزة، بل عواصم أفريقية وآسيوية باتت ساحة اختبار لمعادلة القوة والنفوذ بين القاهرة وتل أبيب، بظل حضور أميركي كثيف.
لم تعد معركة غزة مجرد قصف وجوع وموت تحت الركام؛ إنها تتحول الآن إلى صراع إرادات مفتوح على أكثر من جبهة.
إسرائيل ومعها واشنطن تدفعان باتجاه إخراج الفلسطينيين من القطاع، سواء عبر القصف الممنهج أو عبر وصفة "التهجير الطوعي". في المقابل، تقف القاهرة على خط النار السياسي، معلنة أن سيناء لن تكون "الوطن البديل"، وأن أي محاولة لفرض هذا السيناريو هي ببساطة إعدام علني للقضية الفلسطينية.
مواجهة تتجاوز حدود غزة
ما يجري لم يعد شأنًا محليًا أو نزاعًا بين طرفين. الأردن يحذر من انتقال "الوباء الديموغرافي" إلى أراضيه، لبنان يخشى تكرار جرح 1948، والخليج يدعم مصر في العلن بينما يوازن حساباته مع واشنطن. المشهد إذًا ليس مجرد مواجهة مصرية ـ إسرائيلية، بل حزام من الرفض العربي يتشكل حول مشروع التهجير.
تدويل الأزمة
القاهرة تدفع بالمعركة إلى المحافل الدولية، مطالبة بعرض الملف على الجمعية العامة ومجلس الأمن، مع التلويح باللجوء إلى محكمة العدل الدولية. الهدف واضح: تحويل الأزمة من مجرد "خلاف حدود" إلى قضية قانونية وأخلاقية عالمية، وفضح المشروع باعتباره تطهيرًا عرقيًا مغطى بديباجة إنسانية زائفة.
الغرب بين الانقسام والتردد
أوروبا منقسمة؛ باريس ومدريد أقرب إلى موقف القاهرة، بينما برلين ولندن تميلان إلى الصمت أو المواربة حفاظًا على خطوطها مع واشنطن. في المقابل، موسكو وبكين لا تفوتان الفرصة لتصوير أميركا كراعٍ رسمي لسياسة "الإبعاد القسري"، مقدمتين نفسيهما كمدافعين عن القانون الدولي.
حرب السرديات
إسرائيل تبيع للعالم قصة "الرحيل الطوعي"، مصر تصرخ بأن ما يحدث ليس سوى نفي جماعي جديد، فيما المقاومة الفلسطينية ترفع شعار "البقاء صمود". وبين هذه السرديات المتصارعة، يتحول الرأي العام العالمي إلى ساحة معركة أخرى، لا تقل خطورة عن ساحة القتال في غزة.
المآلات المحتملة
إما أن ينجح المشروع الإسرائيلي ـ الأميركي في فرض التهجير، وهو ما سيفتح على المنطقة جرحًا لا يندمل لعقود، أو ينجح الحشد العربي والدولي في وأده مبكرًا، لتعود المعركة إلى أصلها: احتلال لم ينته، وحقوق لشعب لم تمت.
ما بين التهجير والحق التاريخي
في النهاية، قد يبدو المشهد كأنه مجرد جولة جديدة من لعبة عضّ الأصابع بين القاهرة وتل أبيب، لكن الحقيقة أعمق: نحن أمام محاولة مكتملة الأركان لإعادة صياغة الجغرافيا والديموغرافيا معًا.
إسرائيل تسعى لتفريغ غزة وتحويلها إلى "أرض بلا شعب"، والولايات المتحدة توفر الغطاء السياسي والمالي، بينما تتحرك القاهرة على خط النار الدبلوماسي مدعومة بمخاوف عربية وأممية متزايدة.
السؤال ليس فقط "إلى أين يذهب الفلسطينيون؟"، بل "إلى أين يذهب النظام الإقليمي إذا تم تمرير التهجير؟".
فما يجري اليوم ليس مجرد أزمة حدود، بل اختبار تاريخي يحدد ما إذا كانت المنطقة قادرة على حماية شعبها وحقوقها، أم أنها ستستسلم لمعادلة القوة العارية.
هنا تتجلى صورة الشرق الأوسط: بين مشروع نفي متجدد يهدد بابتلاع القضية الفلسطينية، ومشروع صمود دبلوماسي وشعبي يحاول أن يقول للعالم إن التهجير لن يكون قدرًا محتومًا.