بعد التغيير السياسي في سوريا وسقوط النظام السابق، تظهر الصين كفاعل دولي يسعى لإعادة صياغة علاقته مع الحكومة الحالية، مستفيدة من إرث العلاقات الدبلوماسية القديمة والمصالح الاقتصادية التي كانت قائمة قبل التحول السياسي. هذه الخطوة تمثل محاولة بكين للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في منطقة حساسة، مع الانفتاح على فرص جديدة للتعاون الاقتصادي والسياسي.
في شهر واحد بعد سقوط النظام السابق، أرسلت الصين وفدًا برئاسة سفيرها بدمشق، شي هونغ وي، للقاء الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، في خطوة اعتبرت بداية لصفحة جديدة في العلاقات الثنائية. كما تواصل السفير الصيني زياراته لدمشق، حيث التقى في تموز الماضي و10 آب وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، لمناقشة العلاقات الثنائية والمستجدات الإقليمية والدولية، ما أعاد إحياء ملف العلاقات السورية-الصينية الذي ظل حاضرًا خلال سنوات الحرب، وإن تغيرت أولوياته بعد التحولات السياسية الأخيرة.
ملف الإيغور: هاجس أمني صيني
يمثل ملف المقاتلين الإيغور أحد أبرز التحديات في علاقة الصين بسوريا، إذ تثير المخاوف الصينية احتمال وجود جماعات مرتبطة بالإيغور على الأراضي السورية قد تشكل تهديدًا للأمن القومي الصيني. الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش يشير إلى أن هذا الملف يفرض على الصين التعامل بحذر شديد مع الحكومة السورية، مع محاولتها بناء شراكة جديدة تخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية في الوقت نفسه.
إعادة ترتيب المصالح: الاقتصاد والسياسة
العلاقات السورية-الصينية تمر اليوم بمرحلة تجديد، وفق الباحث نادر الخليل، بعد سنوات دعم ثابت للنظام السابق. اللقاءات الأخيرة بين وزير الخارجية السوري والسفير الصيني تعكس استمرار النهج الصيني في تعميق الشراكة مع دمشق، لكن ضمن إطار جديد يتناسب مع التغيرات السياسية.
واحدة من أبرز دوافع الصين لتقوية العلاقات هي إعادة الإعمار، إذ تحتاج سوريا لاستثمارات ضخمة لإعادة بناء بنيتها التحتية المدمرة، بينما تمتلك الصين قدرات مالية وتقنية هائلة يمكن أن تضمن لها حصة كبيرة في مشاريع الطاقة والبنية التحتية. كما تسعى بكين لتعزيز نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط ضمن مشروعها “الحزام والطريق”، إذ تعتبر سوريا موقعًا استراتيجيًا حيويًا لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية، وضمان عدم هيمنة النفوذ الغربي بالكامل على البلاد.
المصالح السورية
سوريا من جانبها تسعى من خلال العلاقة مع الصين للحصول على دعم مالي واستثماري لإعادة الإعمار، ولتعزيز شرعيتها الدولية عبر تحالف مع قوة عظمى، وتنويع تحالفاتها لتجنب الاعتماد الكلي على روسيا أو الغرب. هذا التوازن يتيح للحكومة السورية الجديدة مساحة أكبر للتحرك الاستراتيجي، ويمنحها فرصة للحفاظ على استقلالية القرار السياسي.
الموقف الأمريكي
تثير عودة العلاقات السورية-الصينية اهتمام الولايات المتحدة، التي لا ترغب في تعزيز النفوذ الصيني في سوريا. ومع ذلك، يرى المحللون أن سوريا يمكنها تطوير علاقاتها مع الصين بشكل لا يتعارض مع المصالح الأمريكية، خاصة أن الشراكة الصينية تركز على الجانب الاقتصادي، بينما تبقى الولايات المتحدة مهتمة بالملفات الأمنية ومكافحة الإرهاب. هذا الانقسام يسمح بتقسيم النفوذ بين بكين وواشنطن بطريقة تكفل لسوريا تعددية التحالفات وتفادي السيطرة الكاملة لأي طرف.
مستقبل العلاقات
من المتوقع أن تستمر الصين في دعم الموقف السوري في المحافل الدولية، وخصوصًا في مجلس الأمن، مع تعزيز التنسيق في الملفات الإقليمية مثل القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل. اقتصاديًا، قد تشهد الفترة المقبلة توقيع اتفاقيات استثمارية في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات، مع زيادة المساعدات الصينية غير المشروطة مقارنة بالمساعدات الغربية المرتبطة بالشروط السياسية.
في النهاية، تبدو الشراكة السورية-الصينية اليوم أكثر استراتيجية وتوازنًا، مع مراعاة الصين لمخاوفها الأمنية الخاصة بملف الإيغور، واستفادة سوريا من الإمكانيات الاستثمارية والشرعية السياسية التي توفرها العلاقة مع بكين. هذا التوجه يعكس قدرة كلا الطرفين على إعادة صياغة التحالف بما يتوافق مع مصالحهما المشتركة، ويجعل سوريا نقطة محورية في مشروع “الحزام والطريق” الصيني، وفي الوقت نفسه ملتقى لتوازن القوى في المنطقة.