تصعيد إسرائيل الأخير في غزة ليس مجرد استمرار لحرب بدأت منذ أكثر من عشرة أشهر، إنما يمثل محطة مفصلية تعكس طبيعة الصراع واتجاهاته المستقبلية، تكثيف الغارات الجوية وتوسيع العمليات البرية في شمال القطاع ووسطه يطرح أسئلة عميقة حول الأهداف الاستراتيجية، والرسائل التي تريد الحكومة الإسرائيلية توجيهها، وكذلك المخاطر التي قد تنتج عن هذا النهج العسكري.
الرسالة الداخلية:
يعيش المشهد السياسي في إسرائيل حالة من التوتر المتصاعد.
الشارع الإسرائيلي يتظاهر بشكل متكرر مطالباً بإنجاز صفقة تبادل أسرى، بينما تتهم المعارضة حكومة نتنياهو بالعجز عن تقديم رؤية واضحة لليوم التالي في غزة.
لذلك، يراهن رئيس الوزراء على خيار التصعيد كوسيلة لامتصاص الغضب الداخلي وإظهار نفسه بمظهر القائد القوي القادر على الحسم تكثيف القصف يمنحه فرصة لتصدير صورة الإنجاز الميداني، حتى لو كانت المكاسب الحقيقية محدودة أو مكلفة.
البعد الإقليمي:
من الواضح أن توسيع العملية يتجاوز حدود غزة نفسها التوقيت مرتبط بحسابات أوسع تشمل لبنان وسوريا واليمن. إسرائيل تسعى لتثبيت معادلة ردع أمام حزب الله، ولتقول إن انشغالها في غزة لا يمنعها من مواجهة جبهات أخرى.
في الوقت ذاته، هذا التوسع يزيد احتمال الانفجار الإقليمي، خصوصاً إذا تزامن مع ضربات عابرة للحدود أو ردود فعل من قوى إقليمية تعتبر نفسها معنية بالدفاع عن غزة.
الرسالة الدولية:
الحكومة الإسرائيلية تدرك حجم الانتقادات المتزايدة من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بشأن الوضع الإنساني.
لذلك تحاول تغطية التصعيد بخطوات شكلية مثل الإشارة إلى نقل السكان أو إنشاء مناطق إيواء مؤقتة في الجنوب. غير أنّ هذه الإجراءات لا تغيّر من حقيقة أنّ القطاع يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه.
تفشي الجوع، انهيار النظام الصحي، ومعدلات الوفيات المرتفعة تعكس عجز أي غطاء سياسي عن تبرير حجم المعاناة.
المخاطر الميدانية:
المعادلة العسكرية الحالية قد تمنح الجيش الإسرائيلي قدرة على التوغل في أحياء جديدة، لكنها لا تقدم ضمانة للسيطرة المستدامة.
تاريخ الحروب في غزة يوضح أن السيطرة على الأرض تتطلب بيئة آمنة وإدارة سياسية مقبولة، وهو ما يفتقر إليه جيش الاحتلال الآن.
استمرار القصف يزيد من نقمة السكان، ويقوي الخطاب المقاوم الذي يجد في المأساة الإنسانية أرضية خصبة لاستمرار الصراع.
المخاطر السياسية:
الخيارات المطروحة أمام الحكومة الإسرائيلية تبدو محدودة.
الاستمرار في التصعيد يفاقم الأزمة الإنسانية ويضعف فرص التوصل إلى أي تسوية عبر الوسطاء المصريين والقطريين. التراجع عن التصعيد دون مكاسب ملموسة قد يُظهر نتنياهو في صورة المهزوم سياسياً. هذه المعادلة المزدوجة تجعل أي قرار محفوفاً بالثمن، وتزيد من احتمالية اهتزاز الحكومة في الداخل.
المخاطر الإقليمية:
كلما توسعت العمليات، زادت احتمالات تدخل أطراف إقليمية. حزب الله يربط تحركاته في الجنوب اللبناني بمسار الحرب في غزة، وأي توسع كبير في العمليات قد يدفعه لرفع مستوى المواجهة.
كذلك، الضربات المتبادلة مع جماعات مرتبطة بإيران في سوريا أو العراق قد تأخذ منحى أكثر خطورة إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
تكثيف القصف على غزة ليس خطوة عابرة، إنما يمثل محاولة إسرائيلية لإعادة رسم مسار الحرب وفق معادلة القوة العسكرية وحدها.
هذه المحاولة تحمل رسائل للداخل والخارج، لكنها تحمل في الوقت نفسه سلسلة من المخاطر التي قد تعصف بأي إنجاز ميداني.
الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع مرشحة للتفاقم، والجهود الدبلوماسية مهددة بالانهيار، والمنطقة بأكملها قد تنزلق نحو مواجهة مفتوحة. وفي غياب رؤية سياسية شاملة، يصبح التصعيد العسكري أقرب إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، قد تنقلب على أصحابها وتفتح الباب أمام فصل جديد أكثر تعقيداً في الصراع.