تعود هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى واجهة المشهد الأمني في شمال وشرق سوريا، مع تسجيل نشاط ملحوظ خلال النصف الأول من الشهر الجاري، حيث نفذت خلاياه 14 عملية متفرقة أوقعت نحو 20 قتيلاً وجريحاً، معظمهم من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأجهزة الأمنية التابعة لها. هذا التصعيد يسلّط الضوء على قدرة التنظيم على إعادة تنظيم صفوفه، واستغلال الثغرات الأمنية لفرض حضوره مجدداً في مناطق كانت تعدّ سابقاً من أبرز معاقله.
ورغم أن التنظيم فقد السيطرة الجغرافية منذ سنوات، إلا أن هجماته الأخيرة تكشف عن استراتيجية قائمة على الضربات السريعة والخاطفة، بهدف استنزاف الخصوم، وزعزعة ثقة المدنيين بالجهات المسيطرة. ويبرز هذا التهديد بشكل خاص في محافظة دير الزور، التي ما تزال مسرحاً رئيسياً لتحركات خلاياه، مستفيدة من طبيعتها الجغرافية المعقدة واتساع مناطق الريف.
14 هجوماً في نصف شهر
بحسب المعطيات الميدانية، تركزت الهجمات في دير الزور بواقع 12 عملية، إضافة إلى هجوم واحد في الرقة وآخر في الحسكة. وأسفرت هذه العمليات مجتمعة عن مقتل 10 عناصر من "قسد" والقوى الأمنية، وإصابة 9 آخرين بجروح متفاوتة، إلى جانب خسائر في صفوف المهاجمين.
الهجمات تنوعت بين استهداف سيارات عسكرية، وزرع عبوات ناسفة، واغتيالات مباشرة، وحتى هجمات على صهاريج النفط، ما يعكس رغبة التنظيم في توسيع دائرة الاستهداف لتشمل البنية الاقتصادية إلى جانب الأهداف العسكرية.
في الأول من آب فقط، شهدت المنطقة سلسلة عمليات متزامنة في ذيبان والحوايج وحوائج البومصعة، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى من "قسد" والأسايش، فيما أعقبها هجوم في بلدة الكرامة بريف الرقة أدى إلى إصابة أحد العناصر. الأيام التالية حملت مزيداً من التصعيد، إذ استُهدفت نقاط عسكرية في أبريهة والجنينة والبحرة، وأسفرت إحدى العمليات عن مقتل عنصرين من "قسد" وإصابة آخر بجروح خطيرة.
كما لم يسلم المدنيون من تبعات هذا التصعيد، إذ زرعت خلايا التنظيم قنبلة صوتية في شاحنة أحد المواطنين بريف دير الزور بسبب رفضه دفع "الزكاة"، في إشارة إلى استمرار محاولة التنظيم فرض نفوذه المالي والأمني على السكان المحليين.
153 عملية منذ مطلع العام
البيانات المتراكمة منذ بداية العام 2025 تكشف أن نشاط "داعش" ليس عرضياً، بل يأتي ضمن مسار تصاعدي. فقد سجل 153 عملية للتنظيم في مناطق سيطرة "الإدارة الذاتية" خلال أقل من ثمانية أشهر، أسفرت عن مقتل 64 شخصاً، بينهم 45 من "قسد" والتشكيلات العسكرية المساندة، و10 مدنيين، إضافة إلى عناصر من التنظيم نفسه.
دير الزور تصدرت المشهد بـ130 عملية، تلتها الحسكة بـ13 عملية، ثم الرقة بـ10. هذا التوزع الجغرافي يؤكد أن التنظيم يركز عملياته في المناطق الريفية الواسعة التي يصعب ضبطها أمنياً، مستفيداً من وجود خلايا نائمة قادرة على الحركة عبر دراجات نارية وطرق فرعية.
استراتيجية "الاستنزاف الطويل"
يبدو واضحاً أن التنظيم يعتمد على سياسة "الاستنزاف الطويل"، من خلال استهداف متكرر لكنه غير مركّز، ما يرهق القوى الأمنية والعسكرية ويشتت جهودها. وفي الوقت نفسه، يسعى عبر هذه العمليات إلى تأكيد بقائه كتهديد مستمر، قادر على العودة متى ما سنحت الظروف.
هذا النمط من الهجمات، وإن كان محدوداً من حيث الخسائر البشرية مقارنة بفترات سابقة، إلا أنه يترك أثراً نفسياً كبيراً، سواء لدى المدنيين الذين يعيشون في حالة خوف دائم، أو لدى القوات المسيطرة التي تجد نفسها مضطرة لتكثيف الحملات الأمنية والتمشيط المستمر دون نتائج حاسمة.
مستقبل غامض
مع كل هجوم جديد، يعود السؤال عن مدى قدرة "قسد" وحلفائها على مواجهة الخطر المتجدد. فغياب الحلول الجذرية للتحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة يوفر بيئة خصبة لبقاء التنظيم، سواء من خلال تجنيد عناصر جديدة أو فرض الأتاوات على الأهالي.
وبينما تواصل قوات "قسد" جهودها لتعزيز انتشارها الأمني عبر حملات تمشيط واعتقالات، تبدو المهمة صعبة في ظل طبيعة الجغرافيا والامتداد الواسع للمناطق الريفية، إضافة إلى انشغالها بملفات أخرى داخلية وسياسية.
في المحصلة، يمكن القول إن هجمات "داعش" الأخيرة تعكس عودة تدريجية لأسلوبه التقليدي: عمليات متفرقة لكنها مؤثرة، هدفها إرباك الخصوم أكثر من تحقيق مكاسب عسكرية مباشرة. ومع استمرار هذا النهج، تبقى مناطق شمال وشرق سوريا أمام تهديد دائم، عنوانه: "داعش لم ينته بعد".