في اللحظة التي تتصاعد فيها نيران الحرب على غزة وتتشابك خطوط المفاوضات في الكواليس، تعيش إسرائيل انقسامًا داخليًا غير مسبوق حول طبيعة الصفقة المحتملة مع حماس. فالمشهد لم يعد محصورًا في جدل تفاوضي عابر، بل تحوّل إلى صراع بين أجنحة الدولة نفسها: هل تقبل إسرائيل باتفاق جزئي يعيد بعض الرهائن أحياء، أم تتمسك باتفاق شامل يفرض إنهاء الحرب والإفراج عن الجميع دفعة واحدة؟ هذا الجدل يكشف عن عمق الأزمة التي تهز المؤسسة الإسرائيلية وتضع صناع القرار أمام امتحان وجودي.
من جهة، يقف فريق يقوده رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، يعتقد أن حياة عشرة رهائن يمكن أن تُنقذ اليوم أهم بكثير من انتظار صفقة كاملة قد لا تتحقق أبدًا. هؤلاء يرون أن منطق "الكل أو لا شيء" يساوي في الواقع "لا شيء"، وأن التأجيل لا يخدم سوى تعقيد المأساة. في المقابل، يتخذ رئيس الموساد دافيد برنياع موقفًا متشددًا، إذ نقل إلى الوسيط القطري رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل لا ترى مجالًا للحديث عن اتفاق جزئي. أما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد آثر الصمت في مؤتمره الصحفي الأخير، متجنبًا الكشف عن موقفه المباشر، ما يعكس ارتباكه في ظل ضغط داخلي متصاعد.
ويبرز في هذا الانقسام أيضًا دور وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، الذي يقود فريق التفاوض منذ أشهر. ديرمر يتحدث بلغة مختلفة؛ فهو يشير إلى أن واشنطن تُعد خطة متكاملة لإنهاء الحرب، وأن هذه الخطة تتضمن بالضرورة صفقة شاملة للإفراج عن جميع الرهائن، وربطها بترتيبات اليوم التالي في غزة. بهذا يصبح الموقف الأميركي عاملًا ضاغطًا يحدّ من هامش المناورة أمام حكومة تل أبيب، ويجعل خيار الصفقة الجزئية أقرب إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.
على الجانب الآخر، تسعى حماس إلى استثمار الانقسام الإسرائيلي. فهي تبعث بإشارات استعداد لبحث اتفاق جزئي، لكن كثيرين في إسرائيل يعتقدون أن هذه مجرد مناورة هدفها كسب الوقت ومنع عملية عسكرية واسعة في قلب مدينة غزة. ومع ذلك، تظل الحركة متمسكة بشرطها الأوسع: إنهاء الحرب بالكامل مقابل إطلاق جميع الرهائن. هذا الشرط يحوّل أي نقاش جزئي إلى خطوة ناقصة لا تحظى بضمانات الاستمرار.
الدور الإقليمي حاضر بقوة في هذه المعادلة. فمصر تتحرك عبر قنواتها الأمنية لتثبيت وقف إطلاق النار وربط ملف الرهائن بتسوية أوسع تشمل إعادة إعمار القطاع وضمانات أمنية متبادلة. قطر، من جهتها، تحافظ على خيط التواصل مع قيادة حماس وتعمل على إبقاء باب التفاوض مفتوحًا، حتى في ظل التباينات الحادة. أما الولايات المتحدة، فهي تضغط بثقلها السياسي والدبلوماسي، ليس فقط لإنهاء أزمة الرهائن، بل لرسم مسار جديد للحرب، يفضي إلى صفقة شاملة تتجاوز الحسابات الإسرائيلية الضيقة.
وفي المحصلة، يقف المشهد الإسرائيلي على حافة مفترق طرق. فإذا غلب منطق "إنقاذ الأرواح الآن"، فقد نشهد توقيع صفقة جزئية تعيد بعض الرهائن وتؤجل الحسم العسكري. أما إذا انتصر منطق "الكل أو لا شيء"، فقد يطول أمد الحرب وتُفتح الأبواب أمام انفجار دموي جديد في غزة. وفي كلتا الحالتين، تظل حماس هي الطرف الأكثر استفادة من الانقسام الإسرائيلي، إذ يتيح لها التمسك بأوراق القوة ومراكمة المكاسب السياسية، بينما يزداد الضغط الدولي من عواصم الغرب والعالم العربي لفرض نهاية لا تزال غامضة على واحدة من أكثر الحروب تعقيدًا في المنطقة.
سيناريوهات ما بعد الانقسام
إذا نجحت الضغوط الدولية والوساطات العربية في فرض صفقة شاملة، فإن ذلك قد يعني بداية مرحلة جديدة في غزة، حيث يتوقف القصف وتُفتح أبواب الإعمار تحت إشراف إقليمي ودولي، مع احتمال نشوء إدارة انتقالية للقطاع تعيد رسم معادلة القوة فيه. مثل هذا السيناريو سيُسجَّل كأكبر إنجاز تفاوضي منذ سنوات، لكنه سيبقى هشًا ما لم يُرفق بتسوية سياسية أوسع.
أما إذا فشلت المفاوضات واستمر الانقسام داخل إسرائيل، فإن النتيجة ستكون تصعيدًا عسكريًا أكثر عنفًا داخل غزة، ربما يصل إلى عملية برية واسعة تهدد حياة ما تبقى من الرهائن وتزيد من معاناة المدنيين. وفي هذه الحال، سيجد المجتمع الدولي نفسه مضطرًا للتدخل بوسائل أكثر صرامة، سواء عبر الضغط السياسي أو عبر خطوات رمزية مثل الاعتراف المتدرج بالدولة الفلسطينية، في محاولة لوقف نزيف الحرب.
بين هذين السيناريوهين، تبقى الحقيقة الوحيدة أن غزة ما زالت تدفع الثمن الأكبر، وأن مستقبل المنطقة بأكملها معلق على قرار لم يُحسم بعد داخل تل أبيب.