لم تكن ضربة الخميس في بلدة عيترون مجرد حادث عرضي في يوم عمل اعتيادي. ففي وضح النهار، حلّقت مسيّرة إسرائيلية على علو منخفض، لتطلق صاروخين موجّهين نحو دراجة نارية تابعة لبلدية البلدة، كان يقودها شرطي مرور أثناء أداء مهامه. لحظات خاطفة حوّلت مهمة خدمية إلى مشهد دموي، أصيب فيه الشرطي بجروح خطيرة، وامتلأ المكان بصراخ امرأة من أبناء البلدة كانت تمر صدفة، فأصابها الانفجار أيضًا.
بحسب بيان بلدية عيترون الجمعة، وقع الاستهداف في حي الضهور، حيث كان الشرطي يؤدي مهامه المعلنة والموثقة، ضمن نطاق العمل البلدي المعتاد. الصاروخان لم يتركا مجالًا للنجاة السريعة، ونُقل المصابان إلى المستشفى وسط تحليق مكثف للمسيّرات في أجواء البلدة وبلدات مجاورة.
البلدية وصفت ما جرى بأنه "اعتداء صارخ على الطواقم الرسمية"، معتبرة أن هذا النوع من الهجمات يدخل في إطار سياسة ممنهجة لضرب البنية المدنية والمؤسسات المحلية، ووضع الحادثة "في عهدة الجهات الرسمية المعنية لمتابعتها واتخاذ ما يلزم".
رسائل أبعد من الحادث
الاستهداف الأخير ليس معزولًا عن سلسلة طويلة من الاعتداءات الإسرائيلية التي طالت جنوبي لبنان منذ اندلاع المواجهة على الجبهة الشمالية. موظفو البلديات، المسعفون، وعمال المرافق العامة، وجدوا أنفسهم في مرمى النيران، في خرق واضح للمواثيق الدولية التي تضمن حماية المدنيين والعاملين في الخدمات الأساسية.
عيترون نفسها، الواقعة في قضاء بنت جبيل على خط التماس الحدودي، دفعت خلال الشهور الماضية أثمانًا بشرية ومادية باهظة، وكان استهداف مرافقها وأبنائها جزءًا من سياسة الضغط المستمرة على بيئتها الحاضنة.
يأتي هذا الهجوم في ظل استمرار الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار المعلن منذ نوفمبر 2024، والذي سجّل منذ ذلك التاريخ آلاف الانتهاكات، بينها هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ موجهة، أدت إلى مئات الضحايا بين قتيل وجريح. توقيت الاستهداف يوحي برسالة مزدوجة: استمرار الحرب الباردة على الأرض، ورفض أي تهدئة فعلية في الجنوب، مع استخدام المدنيين كأوراق ضغط سياسية وأمنية.
حادثة عيترون تكشف، مجددًا، أن المدنيين في جنوب لبنان ليسوا خارج بنك الأهداف الإسرائيلية، وأن الحدود بين الجبهة العسكرية والميدان المدني تكاد تتلاشى. في ظل غياب ردع حقيقي، يبقى السؤال: كم من الوقت سيظل الجنوبيون يدفعون ثمن رسائل الحرب الإسرائيلية، وهم يحملون بطاقة هوية لا سلاحًا؟
ومنذ حرب تموز 2006، تبنّت إسرائيل استراتيجية الاستهداف الدقيق عبر الجو، مع تصاعد استخدام الطائرات المسيّرة في العقد الأخير لتوجيه ضربات مركزة داخل العمق الحدودي اللبناني. ومع تطور هذه التقنيات، اتسع نطاق الأهداف ليشمل عناصر مدنية بحتة مثل عمال البلديات، فرق الإسعاف، وعمال الكهرباء والمياه، رغم حمايتهم بموجب القانون الدولي الإنساني.
في السنوات الأخيرة، تكررت عمليات استهداف الدراجات النارية والمركبات الخفيفة في الجنوب، نظرًا لاعتماد الكوادر الخدمية عليها في التنقل، ما جعلها أهدافًا سهلة وسط بيئة مأهولة. قرى قضاء بنت جبيل، وعلى رأسها عيترون، دفعت أثمانًا بشرية ومادية باهظة خلال كل جولة تصعيد، وأصبحت رمزًا لصمود المناطق الحدودية في مواجهة سياسة «الضغط الميداني المستمر» التي تنتهجها تل أبيب.
سياسيًا، يأتي هذا النوع من الاستهداف في ظل مرحلة شديدة التوتر على الجبهة الشمالية، حيث تحاول إسرائيل، عبر تكثيف الضربات على المناطق الحدودية اللبنانية، فرض معادلة ردع جديدة قبل أي تسوية محتملة، وإرسال رسائل مزدوجة إلى حزب الله والدولة اللبنانية بأن الكوادر المدنية لن تكون بمنأى عن دائرة النار. كما يتقاطع هذا السلوك مع نهج أوسع لتل أبيب في استثمار الضغط العسكري على المدنيين كأداة سياسية لدفع بيئة المقاومة نحو الانهاك والاستنزاف.