تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة أعادت للأذهان خريطة "بلير هاوس" التي ظهرت خلال اجتماع سابق في واشنطن بتاريخ 10 يوليو 2025، ما أثار جدلاً واسعًا حول نوايا إسرائيل الإقليمية. نتنياهو أكد في مقابلة مع قناة i24 أنه في "مهمة تاريخية وروحية" مرتبطة برؤية "إسرائيل الكبرى"، والتي تشمل الأراضي الفلسطينية وأجزاء من الأردن وسوريا ولبنان ومصر، ما جعل الخريطة محورًا لتحليل احتمالات التوسع الإسرائيلي وممر النفوذ الإقليمي.
في الاجتماع، الذي عُقد بمقر إقامة كبار ضيوف الولايات المتحدة، حضره نتنياهو إلى جانب وزير الداخلية الأمريكي دوغ بورغوم، ووزير الطاقة الأمريكي كريس رايت، ومايك هاكابي، تم الإعلان رسميًا عن توقيع اتفاقيات في مجالي الطاقة والذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، ركزت عدسات الكاميرات على الخريطة التي حملت تظليلاً برتقاليًا يغطي مناطق واسعة من الشرق الأوسط، وخطًا أسود يمتد من غزة حتى مكة، وإشارات نصية فوق هذه البلدان.
وجود خريطة سياسية بهذه التفاصيل على الطاولة، فتح الباب أمام تساؤلات حول الأجندة الحقيقية خلف اللقاء، خصوصًا أن اللقاء كان يُفترض أن يكون اقتصاديًا وتكنولوجيًا وليس سياسيًا أو جغرافيًا.
من خلال هذا التقرير نحاول الربط بين الصور وتصريحات نتنياهو ومفهوم “إسرائيل الكبرى”، ودلالات الخريطة واحتمالاتها السياسية والاقتصادية.
تفاصيل الخريطة ومحتواها
الخريطة التي ظهرت في الصور تحمل تظليلاً برتقالي اللون يشمل دولاً ومناطق عربية وإسلامية واسعة، بينها مصر وأجزاء من السودان وليبيا والعراق وبلاد الشام وتركيا وإيران، مع تدوينات نصية فوق هذه الدول، وخط أسود واضح يمتد من قطاع غزة عبر شبه الجزيرة العربية وصولاً إلى مكة المكرمة. هذا التوزيع الجغرافي، وفق مراقبين، لا يشير إلى مجرد تقسيم سياسي، بل يوحي بممر نفوذ أو شبكة مصالح اقتصادية وأمنية تمتد على نطاق واسع.
علاقة الصور بالتصريحات التي أطلقها نتنياهو، أكد فيها أنه يعمل على "مهمة روحية وتاريخية" مرتبطة برؤية "إسرائيل الكبرى"، وهو مفهوم له جذور في الأدبيات الصهيونية الكلاسيكية التي طرحت تصوراً لحيز جغرافي يمتد "من النيل إلى الفرات". ورغم أن هذه التصورات لم تتحول إلى حدود رسمية، فإنها بقيت حاضرة في الخطاب السياسي لليمين الإسرائيلي، خصوصاً في عهد نتنياهو.
الخرائط والصور من الاجتماع في بلير هاوس، بفعل تصريحات نتنياهو، تبدو وكأنها مقدمة بصرية لرؤية إسرائيل الكبرى، إنها ليست حدودًا قانونية، بل مخطط نفوذ إقليمي يستخدم أدوات الطاقة والتكنولوجيا كغطاء للتوسع. ومع التصريحات الروحية والتاريخية لنتنياهو، تتجلى الصورة الاستراتيجية لإسرائيل في إعادة تشكيل المنطقة—في ملفات الطاقة، البيانات، والنفوذ—عبر الممرات والتظليلات، وليس الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو التراجع عن الاستيطان.
المفهوم السياسي لإسرائيل الكبرى
من الناحية التاريخية، ارتبط مفهوم "إسرائيل الكبرى" برؤية توسعية تقوم على اعتبار المنطقة الممتدة من شرق المتوسط إلى العمق العربي والإسلامي مجالاً حيوياً للنفوذ الإسرائيلي، بطريقة عملية، من خلال دمج مشاريع الطاقة والذكاء الاصطناعي في إطار إستراتيجية نفوذ إقليمي واسعة.
السياق الأيديولوجي لرؤية "إسرائيل الكبرى"
مصطلح "إسرائيل الكبرى" ظهر بعد 1967 للإشارة إلى إسرائيل والمناطق التي احتلتها حينها—القدس الشرقية، الضفة الغربية، غزة، الجولان، وسيناء—وتحوَّل لاحقًا إلى خطاب توسعي يشمل فلسطين التاريخية وأجزاء من دول عربية مجاورة.
في مقابلة i24، وصف نتنياهو نفسه بأنه في "مهمة أجيال"، تعبير يستعيد الذاكرة الصهيونية التاريخية التي ربطت بين الحلم التوسعي والهدف الديني الروحي للدولة. وأجاب "عندما أرى أنني أنجزت ما علي إنجازه، وما زال لدي الكثير، فسأستمر"، ما يضفي على الرؤية طابعًا لا زمنيًا واستمراريًا.
اولا: اقتصادية واستراتيجية
الصور الصادرة من بلير هاوس، مع الخط الجغرافي والتظليل الواسع، لا تعني بالضرورة أن إسرائيل ترسم حدود "إسرائيل الكبرى" بشكل رسمي، لكنها تشير إلى تصور نفوذ إقليمي واسع يستخدم أدوات الطاقة والتكنولوجيا كغطاء لمشاريع استراتيجية أكبر. ومع تصريحات نتنياهو الأخيرة، يصبح من الصعب فصل هذه الصور عن الرؤية الأيديولوجية التي يسعى لتكريسها، ما يجعل مراقبة التطورات والتحركات المرتبطة بهذه الخريطة أمراً بالغ الأهمية للأمن الإقليمي العربي.
الربط بخطط التطبيع والممرات الإقليمية
تتوافق الخريطة التي عرضها نتنياهو في بلير هاوس مع ملامح مشاريع إقليمية تدفع بها واشنطن وتل أبيب في السنوات الأخيرة، والتي تُطرح تحت شعارات "التكامل الاقتصادي" و"السلام الإقليمي" في إطار مسار التطبيع. هذه المشاريع تتضمن إقامة ممرات برية وبحرية وقطارات تربط موانئ شرق المتوسط بموانئ البحر الأحمر والخليج، إلى جانب شبكات طاقة وكابلات ألياف ضوئية لربط أسواق البيانات والطاقة بين أوروبا وآسيا عبر إسرائيل والأردن والسعودية والإمارات.
الخريطة بتظليلها الواسع وخطها الممتد من غزة إلى مكة، تعكس عملياً مسار هذه الممرات، وتعيد إنتاجها في سياق جيوسياسي تهيمن عليه إسرائيل، بحيث تصبح البنية التحتية الإقليمية – من الغاز إلى الاتصالات – أداة لتعميق نفوذها وضمان حضورها في قلب التجارة العالمية، مع منح التطبيع الاقتصادي غطاءً لمشاريع أمنية وإستراتيجية أوسع.
دلالات الخريطة في بلير هاوس
الخريطة لا تعبر عن "حدود رسمية"، بل يبدو أنها تُعبر عن مسارات نفوذ وتمدد اقتصادي تقني، حيث يظهر الخط من غزة إلى مكة وكأنه ممر نفوذ مشترك: للطاقة، للنقل، للبيانات، وربما محور لوجستي أو رقمي—وأهم من ذلك، يبدو وكأنه يمثل إعادة توزيع للمشهد الإقليمي تحت قيادة إسرائيل–أمريكا.
انعكاسات على الأطراف الإقليمية
مصر: أي ممر من غزة إلى مكة سيمر عبر سيناء أو مياهها، ما يلامس مباشرة السيادة المصرية ويتطلب إدارة دقيقة للاستراتيجيات. القاهرة ستنظر إلى هذا الأمر كقضية سيادة وممرات استراتيجية حساسة، وليس كمشروع استثماري عادي.
فلسطين: تؤكد الأحداث مجددًا أن غزة تُعتبر نقطة ربط إقليمية أكثر من كونها كيانًا سياسيًا مستقلًا، ما يعزز موقف إسرائيل الداعي لإلغاء فكرة الدولة الفلسطينية.
الخليج والمقدسات: يشير الخط إلى محاولة استثمار الرمزية الدينية لمكة لإضفاء بعد ديني ورمزي على المشروع، وهو أمر قد ترفضه الرياض من منظور سيادتها الوطنية.
إيران وتركيا: تغطية الخريطة لهما باللون البرتقالي تدل على أنهما ضمن نطاق النفوذ أو الاحتواء المحتمل، في استراتيجية إسرائيلية تمتد خارج نطاق الشمال العربي التقليدي.
ثانيًا: كيف ترتبط الخريطة بمفهوم “إسرائيل الكبرى”؟
المفهوم سياسيًا وتاريخيًا
في الأدبيات الصهيونية الكلاسيكية طُرحت تصورات فضفاضة لحيّز جغرافي يمتد “من النيل إلى الفرات”. لم تُترجم هذه التصورات إلى حدود قانونية، لكنها ظلّت مرجعية رمزية لدى تيارات -يمينية قومانية- في إسرائيل.
نتنياهو نفسه قدّم عبر السنوات خرائط وخطابات توسّع السيادة والهيمنة أكثر مما تُحدّد “حدودًا”؛ مثل خريطته في الأمم المتحدة (2023) التي أزالت فلسطين من الصورة تحت عنوان “شرق أوسط جديد” قائم على توسيع التطبيع ومشاريع البنى التحتية الإقليمية.
إسقاط المفهوم على صور بلير هاوس
اللون البرتقالي الشامل يوحي بفكرة “حيّز نفوذ” يتجاوز فلسطين إلى الإقليم الأوسع—من شرق المتوسط حتى الجزيرة العربية وإيران وتركيا.
الخط غزة–مكة قد يُقرأ كرمزٍ لممرّ بري/بحري/رقمي يربط شرق المتوسط بالبحر الأحمر والجزيرة العربية—وهو نمط نفوذ أكثر منه ضمًّا حدوديًا.
الربط الزمني مع تصريح “المهمة الروحية والتاريخية” يمنح الخريطة شحنة أيديولوجية: تحويل مشاريع الطاقة/الذكاء الاصطناعي إلى أدوات تمدّد استراتيجي.
الخلاصة: الصور لا تُثبت “خطة حدود لإسرائيل الكبرى” بمعناها القانوني، لكنها تُجسّد خطابًا توسعيًا يرى المنطقة مجال نفوذ إسرائيلي تُدار فيه الممرات والموارد تحت هيكل أمني اقتصادي- تقوده تل أبيب وتستثمر فيه واشنطن.
ثالثًا: لماذا تظهر الخريطة في اجتماع طاقة وذكاء اصطناعي؟
1) الطاقة
غاز شرق المتوسط وخطوط نقله، وربطها بأسواق البحر الأحمر والخليج.
ممرات حيوية: سيناء/العقبة/نيوم/السواحل العربية، وخيارات خطوط بحرية–برية بديلة لقنوات حوكمة قائمة.
مشاريع الربط الكهربائي والهيدروجين الأخضر العابرة للحدود.
2) الذكاء الاصطناعي والبنية الرقمية
خرائط كوابل الألياف البحرية ومراكز البيانات ومساراتها (المتوسط–السويس–البحر الأحمر–الخليج).
التحكم بالبيانات والبنية الحساسة جزء من نفوذ جيوسياسي جديد؛ لذا يظهر التظليل على دول ومسارات—not حدود دولة.
الاستنتاج: الجمع بين الطاقة والذكاء الاصطناعي يوحي بممر نفوذ مركّب(Energy–Data–Security Corridor) يربط غزة/الساحل الفلسطيني ببوابات البحر الأحمر والجزيرة.
رابعًا: ربط الوقائع والتصريحات (خط زمني موجز)
2019–2023: مواقف يمينية متكررة من نتنياهو ضدّ الدولة الفلسطينية وطرح خرائط “شرق أوسط جديد” بلا فلسطين.
الحرب على غزة (2023–2025): خطاب أمن قومي إسرائيلي يُشرعن “العمق الإقليمي” والعمليات العابرة للحدود، مع أحاديث متواترة عن ترتيبات في سيناء/غزة/الممرات.
يوليو 2025: صور بلير هاوس بخريطة التظليل الواسع والخط غزة–مكة.
تصريح “المهمة الروحية/التاريخية”: يُقدّم غطاءً أيديولوجيًا لمشاريع نفوذ إقليمي تُسوّق عبر الاقتصاد والتكنولوجيا.
خامسًا: ماذا يمكن أن تعنيه الخريطة عمليًا؟
ثلاث فرضيات تشغيلية (غير متعارضة):
1. خريطة ممرات: رسم مسارات طاقة/بيانات/تجارة من شرق المتوسط إلى البحر الأحمر فالجزيرة، مع ترتيبات أمنية تقودها إسرائيل.
2. خارطة نفوذ: تحديد نطاق دول يجب إدماجها/تحييدها ضمن “شرق أوسط تقوده التكنولوجيا والطاقة” تحت مظلة أمريكية–إسرائيلية.
3. رسالة سياسية: توظيف الخريطة لإظهار أن تسويات ما بعد حرب غزة ستُبنى على هندسة إقليمية جديدة لا على قيام دولة فلسطينية.
واخيرا الصورة لا تكفي وحدها لإثبات نية “ضمّ حدودي”؛ لكن ربطها بتصريحات نتنياهو وخطاب حكومته يعطيها وزنًا دلاليًا يستدعي المتابعة والردع الدبلوماسي.
الصور الخارجة من بلير هاوس—مع خط غزة–مكة وتظليلٍ يبتلع الإقليم—لا تقول إن تل أبيب ترسم غدًا حدود “إسرائيل الكبرى” على الخرائط الرسمية، لكنها تقول بوضوح إن تصوّر النفوذ الإسرائيلي بعد حرب غزة يستهدف الممرات والموارد والبنية الرقمية من شرق المتوسط إلى البحر الأحمر والجزيرة، في إطار أيديولوجي يعبّر عنه نتنياهو بـ“المهمة الروحية والتاريخية”.
بالنتيجة، تتحول معارك الطاقة والبيانات والمضائق إلى جبهة السياسة المركزية في السنوات المقبلة، وتتعاظم مسؤولية العواصم العربية—خاصة القاهرة والرياض—في تحصين السيادة وحوكمة الممرات وإغلاق الباب أمام أي هندسة إقليمية تتجاهل الحق الفلسطيني أو تمسّ الأمن القومي.