في وقت يعيش فيه قطاع غزة واحدة من أعتى الكوارث الإنسانية والسياسية في تاريخه، خرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتصريحات حاسمة، اليوم الخميس، شدد فيها على ضرورة أن تتسلم السلطة الفلسطينية كافة الأسلحة من الفصائل، تمهيداً لإعادة إعمار القطاع وإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني تحت مظلة "نظام واحد وقانون واحد وسلاح شرعي واحد". هذه الرسالة، التي جاءت خلال لقائه نائب وزير خارجية اليابان البرلماني ماتسوموتو هيساشي في رام الله، تحمل أكثر من بعد سياسي وأمني، وتفتح الباب لنقاش واسع حول مستقبل غزة ما بعد الحرب، ودور السلطة الفلسطينية في تلك المرحلة الحساسة.
عباس أوضح أن الهدف ليس إقامة "دولة مسلحة"، بل دولة مدنية، مشيراً إلى أن أي حل سياسي مستدام يجب أن يبدأ بانسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة، وفتح الطريق أمام عملية إعمار شاملة، وصولاً إلى انتخابات عامة خلال عام واحد، بما يعيد الشرعية الشعبية للمؤسسات الفلسطينية. كما أكد على ضرورة تحقيق تهدئة شاملة في الضفة الغربية، ووقف الاستيطان ومحاولات الضم، وإنهاء اعتداءات المستوطنين، واستعادة الأموال الفلسطينية المحتجزة لدى إسرائيل، ووقف الانتهاكات بحق الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية.
وفي بُعد إنساني عاجل، شدد عباس على "ضرورة تحقيق الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار، والإسراع في إدخال المساعدات الإنسانية لوقف حرب التجويع"، إلى جانب الإفراج عن الرهائن والأسرى. وأعاد التأكيد على أن تسليم السلاح للسلطة الفلسطينية يمثل أساساً لاستعادة النظام والأمن، وأن دولة فلسطين، في حال توليها كامل المسؤوليات المدنية والأمنية في غزة، ستعمل وفق مبدأ السلاح الشرعي فقط، ما يعكس توجهه نحو إنهاء حالة التعددية المسلحة التي طبعت الساحة الفلسطينية خلال العقود الماضية.
هذا الطرح ينسجم مع رؤية دولية، خصوصاً من بعض الأطراف الغربية والعربية، ترى أن أي إعادة إعمار للقطاع لا يمكن أن تنجح دون وجود سلطة أمنية واحدة، قادرة على فرض القانون ومنع تجدد المواجهات المسلحة.
لكن في المقابل، يطرح مراقبون تساؤلات حول مدى واقعية هذه الرؤية في ظل التعقيدات الميدانية، ووجود فصائل كبرى ترفض التخلي عن سلاحها، معتبرة أنه ضمانة لردع الاحتلال.
تصريحات عباس لم تكن موجهة فقط إلى الداخل الفلسطيني، بل جاءت أيضاً في سياق علاقاته الدبلوماسية، إذ حرص على الإشادة بمواقف اليابان الداعمة للسلام وحل الدولتين، ووقف الحرب في غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية، ورفض الاستيطان وعنف المستوطنين. واعتبر أن هذه المواقف تعكس التزام طوكيو العميق بالسلام، مشيداً في الوقت نفسه بالدعم الإنساني المقدم من اليابان لسكان غزة، ودعمها لوكالة "أونروا"، والمشاريع التنموية مثل "ممر السلام والازدهار" ومجموعة "سياباد" التي تدعم بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية.
من الناحية السياسية، يمكن قراءة هذه التصريحات كجزء من محاولة السلطة الفلسطينية استعادة زمام المبادرة في ملف غزة، بعد سنوات من الانقسام الداخلي، ومع اقتراب الحرب الحالية من منعطف جديد قد يشهد ترتيبات ما بعد الصراع. فعباس يضع شرط تسليم السلاح كمدخل لأي عملية سياسية، في وقت تدفع فيه بعض الدول نحو صيغة حكم فلسطيني موحد يشمل الضفة وغزة.
لكن التحدي الأكبر أمام هذه الرؤية يبقى في الميدان، حيث لم تُبدِ الفصائل الكبرى، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، أي استعداد عملي للتخلي عن سلاحها، بل تعتبره جزءاً من هويتها ودورها المقاوم. كما أن المجتمع الغزي، الذي يعاني من دمار واسع وأزمة إنسانية خانقة، قد ينظر إلى هذه الدعوات من زاوية الأولويات، مطالباً بتركيز الجهود على الإغاثة وإعادة الإعمار قبل الدخول في جدل سياسي داخلي حول السلاح.
في المحصلة، تصريحات محمود عباس تضع ملامح واضحة لخطته في إدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة، لكنها أيضاً تكشف حجم التحديات السياسية والأمنية أمام السلطة الفلسطينية. فبينما يرى أن "سلاحاً واحداً" هو الطريق إلى دولة مستقرة وقابلة للحياة، فإن الواقع المعقد على الأرض، وتوازنات القوى بين الفصائل، يفرضان مساراً تفاوضياً طويلاً قبل الوصول إلى تلك النتيجة.