في قصف مباشر على خيمة تابعة لفريق قناة الجزيرة في غزة، استشهد الصحفي الفلسطيني أنس الشريف مع خمسة من زملائه، في لحظة صارت رمزاً لجهود الاحتلال الإسرائيلي المتعمدة لإسكات صوت الحقيقة وسط تصاعد معركة السيطرة على آخر معاقل المقاومة في المدينة.
الدماء التي سالت ليست سوى مقدمة لمجزرة كبرى يُخطط لها الاحتلال، بحسب شهادات أهل القطاع والجهات الإعلامية، في محاولة صارخة لإخماد التغطية الصحفية وتحجيم نقل معاناة المدنيين الفلسطينيين.
أنس الشريف، ابن مخيم جباليا، قضى شهيداً بعدما أمضى شهوراً وهو ينقل ما يحدث في قطاع غزة من انتهاكات وانهيارات إنسانية، متسلحاً بكاميرته وصوته الحي، متحدياً الحصار والدمار.
في وصيته التي تركها قبل استشهاده، كتب:
"إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي... أوصيكم بفلسطين، درة تاج المسلمين، ونبض قلب كل حر في العالم... اللهم تقبلني في الشهداء، واغفر لي، واجعل دمي نوراً يضيء درب الحرية..."
هذه الكلمات التي أعادها زملاؤه ونشرتها إدارة الصفحة الرسمية لـ"أنس الشريف" تكشف مدى إصراره على التمسك بالرسالة الصحفية رغم المخاطر، وتكشف تعمد الاحتلال تصفية الإعلاميين كمقدمة لمجزرة مزمعة على غزة.
كلمات أنس لا تُسلط الضوء فقط على إيمانه العميق بقضيته، بل تُعزز أيضًا القناعة بأن استهداف الإعلاميين هو تكتيك متعمد يسبق عادة العمليات العسكرية واسعة النطاق لتقويض قدرة العالم على مراقبة الأحداث بشكل مستقل.
وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، ارتفعت حصيلة الشهداء الصحفيين إلى 237 منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023، تشير التقارير إلى أن هذه الحصيلة تشمل صحفيين من مختلف المؤسسات الإعلامية، بما في ذلك قناة الجزيرة، وكالة "فلسطين اليوم" الإخبارية، وغيرها.
في مقارنة مع نزاعات سابقة، يتجلى حجم الكارثة في غزة مقارنة أن عدد الصحفيين الذين استُشهدوا في غزة خلال العامين الماضيين يفوق بكثير أعداد الصحفيين الذين قتلوا في نزاعات أخرى:
العراق (2003-2011): استُشهد حوالي 75 صحفيًا على مدار ثماني سنوات من الصراع.
سوريا (2011-2023): سُجلت وفاة 92 صحفيًا خلال 12 عامًا.
أفغانستان (2001-2021): استُشهد حوالي 62 صحفيًا في نزاع دام عقدين من الزمن.
اليمن (2015-2023): حوالي 45 صحفياً لقوا حتفهم خلال النزاع.
في المقابل، تجاوز عدد الصحفيين الشهداء في غزة اكثر من 237 صحفي خلال عامين، مما يُشير إلى مستوى غير مسبوق من الاستهداف المتعمد وغير المبرر للصحفيين.
هذه الأرقام المروعة تُبرز أن استهداف الصحفيين في غزة ليس نتيجة عرضية للصراع، بل هو تكتيك ممنهج يهدف إلى قطع تدفق المعلومات المباشرة من الميدان وإخفاء الحقائق عن الرأي العام العالمي.
مراسلون بلا حدود (RSF): صنفت غزة كأكثر مناطق العالم خطورة على الصحفيين، مشيرة إلى وجود نمط ممنهج ومتعمد لاستهداف الإعلاميين.
اليونسكو: أدانت بشدة استهداف الصحفيين، وذكّرت الأطراف المتحاربة بأن الإعلاميين يتمتعون بالحماية بموجب القانون الدولي الإنساني.
استهداف الصحفيين في غزة يتجاوز كونه حوادث عرضية في حرب، بل هو تكتيك واضح لإسكات الإعلام، يخالف القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف التي تحمي الصحفيين باعتبارهم مدنيين في مناطق النزاع.
منظمات حقوق الإنسان، ومن بينها "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، وثقت حملات ممنهجة للاعتداء على الإعلاميين، محملة الاحتلال مسؤولية الجرائم التي ترتكب ضد حرية التعبير وحق الشعوب في المعرفة.
يُضاف إلى ذلك موقف المجتمع الدولي الذي غالباً ما يقف متفرجاً، مما يشجع على استمرار هذه الانتهاكات.
شهادات زملاء أنس الشريف والناشطين:
زملاء أنس أكدوا أن استهدافه كان متعمداً ومخططاً، حيث كان معروفاً بصوته الجريء في فضح الجرائم.
ناشطون إعلاميون طالبوا بفتح تحقيق دولي مستقل ومحاسبة المسؤولين عن استهداف الصحفيين، مؤكدين أن استشهاد أنس هو فقدان صوت الحق وسط الظلام.
في ظل هذه المأساة الإنسانية، تبقى رسالة أنس الشريف وشهادته الدائمة نوراً يضيء درب الحرية للصحافة الحقيقية في غزة والعالم. إن استهداف الصحفيين ليس فقط جريمة فردية، بل محاولة من الاحتلال لتزييف الحقيقة وقمع الصوت الحر، الأمر الذي يستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لحماية الإعلاميين وضمان حق الشعوب في المعرفة.
الصحفي في غزة لا يحمل فقط الكاميرا أو القلم، بل يحمل ثقل مسؤولية نقل مأساة إنسانية غير مسبوقة. هو الشاهد الذي لا يُخاف إلا بصمت، صوت يتحدى القصف، وصورة تحفر في ذاكرة العالم، رغم كل محاولات الاحتلال لإخمادها.
مع كل غارة، لا يُقصف فقط المنازل والطرقات، بل يُقصف الحق في المعرفة، ويُمحى صوت العدالة. استهداف الصحفيين في غزة ينسجم مع خطة عسكرية ممنهجة تهدف إلى إسكات التوثيق الإعلامي، وإخفاء حجم الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، خصوصًا الأطفال والنساء الذين يعانون تحت القصف المستمر.
وليس الأمر مجرّد أرقام أو إحصائيات؛ بل هو قصص فقدان لأرواح بشرية كانت تأمل في أن تصل كلمتهم للعالم. إنهم آباء وأمهات وأبناء وأخوة، رحلوا وهم في ميدان العمل، مؤمنين بأن الحقيقة لا تموت، وأن الإعلام هو سلاح التحرير الأقوى.