رغم مرور أكثر من تسعة أشهر على اندلاع الحرب في قطاع غزة، ما زال المدنيون يدفعون الثمن الأكبر في مشهد تتكرّر فيه المآسي بوتيرة صادمة، آخرها حادثة انقلاب شاحنات تحمل مساعدات غذائية، سقط خلالها عشرات القتلى والجرحى. هذه الحادثة، التي وقعت وسط ظروف إنسانية قاسية وتضييق خانق على طرق الإغاثة، أعادت تسليط الضوء على تعقيدات توزيع المساعدات في القطاع المحاصر، وعلى غياب الضمانات الدولية الكافية لحماية المدنيين في زمن الحرب.
في الساعات الأولى من فجر الأربعاء، لقي ما لا يقل عن 20 فلسطينيًا مصرعهم، وأصيب العشرات، إثر انقلاب شاحنات مساعدات فوق تجمعات من السكان كانوا يحاولون الوصول إلى الغذاء وسط مشهد اتسم بالفوضى والاضطراب في إحدى مناطق القطاع. وذكر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الحادث وقع نتيجة إجبار الاحتلال للشاحنات على سلك طرق غير آمنة سبق أن تعرضت للقصف، دون إعادة تأهيلها. وأشار البيان إلى أن ذلك يعكس تعمّد الزج بالمدنيين في مناطق الخطر والتجويع. لكن الدفاع المدني التابع لحماس قدّم رواية تقنية مختلفة، موضحًا في بيان أن أربع شاحنات من أصل 26 شاحنة تجارية انقلبت نتيجة "وعورة الطرق وخطورتها"، دون الإشارة إلى استهداف مباشر.
وأفادت جمعية نقل محلية بأن القافلة كانت مكونة من 26 شاحنة محمّلة ببضائع تعود لتجار في غزة، وهي الدفعة الأولى التي سُمح لها بالدخول من إسرائيل منذ أشهر، في خطوة فسّرها البعض بأنها محاولة لكسر حالة الحصار جزئيًا، فيما رآها آخرون مسعى إسرائيليًا لنقل مسؤولية الإغاثة للقطاع الخاص على حساب المنظمات الدولية. الجيش الإسرائيلي قال إنه يراجع التقارير المتعلقة بالحادثة، فيما لم تصدر تصريحات مباشرة من "كوغات"، وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، المعنية بإدخال المساعدات.
المكتب الإعلامي في غزة اتهم إسرائيل صراحة بمنع تأمين ممرات آمنة لشاحنات المساعدات، وإجبار السائقين على المرور في مناطق مكتظة بآلاف المدنيين الجوعى الذين ينتظرون المعونات منذ أسابيع. وأضاف أن هذا المشهد أدى إلى هجوم السكان على الشاحنات وانتزاع محتوياتها، ما تسبب في وقوع الحادث. وحث البيان المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية على التدخل الفوري، وفرض فتح المعابر بشكل دائم وآمن، وضمان تدفق الإمدادات الغذائية والطبية والوقود دون عراقيل سياسية أو شروط تعجيزية. وأشار إلى أن ما يجري يعكس خللًا عميقًا في منظومة الاستجابة الدولية، وتواطؤًا ضمنيًا عبر الصمت أو التغاضي، ما يؤدي إلى تعميق المعاناة بدلاً من تخفيفها.
في تطور متصل، دعا مسؤولون أمميون، يوم الثلاثاء، إلى تفكيك مؤسسة الدعم الإنساني في غزة، المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، بدعوى استخدامها المساعدات لأجندات "عسكرية وجيوسياسية خفية". وحذّر بيان مشترك لعدد من المسؤولين الإنسانيين الدوليين من أن تورّط الاستخبارات الإسرائيلية مع متعاقدين أميركيين وكيانات غير حكومية "ضبابية"، يفرض الحاجة إلى إشراف دولي مستقل ومباشر من قبل الأمم المتحدة، لضمان شفافية وعدالة وصول المساعدات.
وبينما كانت الأنظار تتجه إلى حادثة الشاحنات، أعلنت فرق الدفاع المدني أن 68 فلسطينيًا لقوا حتفهم الثلاثاء، بينهم 56 مدنيًا قضوا بالقرب من مراكز توزيع المساعدات في خان يونس جنوب القطاع ومنطقة زيكيم شمالاً، التي تدخل عبرها جزء من المساعدات المصرّح بها. تكشف هذه الأرقام فشلًا واضحًا في تأمين ممرات توزيع المساعدات، وارتفاع مستوى المخاطر المحيطة بكل محاولة لإيصال الغذاء والدواء إلى السكان المحاصرين.
الحادثة الأخيرة، وما رافقها من بيانات وتحذيرات، تؤكد أن أزمة المساعدات في غزة تجاوزت البعد الإنساني، وباتت ترتبط بتوازنات سياسية وأمنية معقّدة. استمرار غياب الإشراف الدولي وعدم وجود ضمانات فعلية للمرور الآمن، يهدد بتكرار المأساة ويجعل من حياة المدنيين ساحة مواجهة مفتوحة بين أطراف النزاع.