كتبت- أماني إبراهيم
في لحظة صمت مهيبة، وقف العالم اليوم، السادس من أغسطس 2025، أمام الذكرى الثمانين لأحد أكثر الأحداث دموية في التاريخ الحديث، القصف الذري الأمريكي لمدينة هيروشيما اليابانية.
تأتي الذكرى هذا العام في ظل تصاعد التوتر النووي عالميًا، مع تنامي المخاوف من سباق تسلّح جديد، وزيادة الدعوات إلى نزع السلاح، في وقت يبدو فيه أن العالم لم يتعلم بعد الدرس القاسي الذي سجلته هيروشيما.
مراسم الذكرى.. غياب للمساءلة
وسط حضور دبلوماسي وشعبي واسع، نظّمت اليابان مراسم رسمية لإحياء ذكرى ضحايا القصف الذين قُتلوا في السادس من أغسطس 1945، ورغم أهمية المناسبة، غاب ذكر الدولة المسؤولة عن القصف – الولايات المتحدة – عن خطابات كبار المسؤولين، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة.
وخلال المراسم، ألقت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة والممثلة السامية لشؤون نزع السلاح، إيزومي ناكاميتسو، رسالة الأمين العام أنطونيو غوتيريش باللغة اليابانية، الرسالة لم تتضمن أي إشارة مباشرة إلى الولايات المتحدة، الدولة التي نفّذت القصف.
وقال غوتيريش في رسالته: "قبل ثمانين عامًا، تغيّر العالم إلى الأبد. في لحظة واحدة، أصبحت هيروشيما بحرًا من النيران، وفقد عشرات الآلاف أرواحهم، وتحولت المدينة إلى ركام. لقد عبرت البشرية نقطة اللاعودة.
اليوم، ونحن نحيي الذكرى الـ80، ننحني احترامًا للضحايا، ونتضامن مع أسرهم. لقد اعتقد الجميع أن إعادة بناء هيروشيما مستحيل، لكن أهلها تحدّوا المستحيل. لم يعيدوا بناء مدينتهم فحسب، بل أعادوا الأمل للحياة".
جاءت كلمات الأمين العام محمّلة برسائل إنسانية قوية وتحذيرات ضمنية، لكنها خلت من تحميل المسؤولية لأي طرف، في وقت يواجه فيه العالم تهديدات نووية متصاعدة وتُطرح فيه تساؤلات أخلاقية متجددة حول استخدام الأسلحة الفتاكة ضد المدنيين.
صمت مشترك.. وتوازنات دقيقة
الصمت الأممي بشأن هوية الجاني لم يكن مفاجئًا، بل تواكب مع تجاهل مماثل من جانب المسؤولين اليابانيين. فقد تجنّب كل من رئيس بلدية هيروشيما كازومي ماتسوي، ورئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا، ذكر اسم الولايات المتحدة في كلمتيهما خلال المراسم.
هذا التواطؤ الصامت، كما يصفه البعض، يعكس توازنات سياسية دقيقة، حيث لا تزال العلاقات الأمنية بين طوكيو وواشنطن قائمة، وتبقى المصلحة السياسية فوق مكاشفة التاريخ.
الكارثة التي غيّرت العالم
في صباح السادس من أغسطس عام 1945، أسقطت طائرة حربية أمريكية من طراز B-29 القنبلة الذرية "ليتل بوي" على مدينة هيروشيما، وأسفر الانفجار النووي عن مقتل نحو 140 ألف شخص من أصل 350 ألفًا كانوا يسكنون المدينة آنذاك. وبعد ثلاثة أيام، تكررت المأساة في مدينة ناغازاكي، حيث قُتل 74 ألفًا على الأقل، معظمهم من المدنيين، وبينهم آلاف النساء والأطفال.
جاء الهجوم في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، بدعوى تسريع استسلام اليابان، لكن الكلفة الإنسانية الهائلة لهذا القرار، والدمار الشامل الذي أحدثه، لا تزال تلقي بظلالها على الضمير العالمي حتى اليوم.
من ركام الحرب إلى رمز للسلام
رغم الدمار الكامل الذي لحق بها، أعادت هيروشيما بناء نفسها كمدينة حديثة، وتحولت إلى ساحة رمزية للحوار العالمي بشأن نزع السلاح النووي. أصبحت "قبة القنبلة الذرية" في قلب المدينة نصبًا تذكاريًا عالميًا، فيما أُنشئت "حديقة السلام" في موقع الانفجار لتكون شاهدًا دائمًا على ما حدث.
ومع تقدم أعمار الناجين، يتزايد القلق في اليابان من ضياع الذاكرة الحيّة للمأساة. لذلك، تعمل الحكومة والمنظمات المدنية على توثيق شهاداتهم وحفظها للأجيال القادمة، لضمان بقاء الحكاية حيّة في وجه النسيان السياسي.
مشاركة دولية واسعة وصدى سياسي باهت
شهدت مراسم هذا العام مشاركة واسعة من ممثلي الدول والمنظمات الدولية. إلا أن الخطابات الرسمية بدت باهتة من حيث المضمون السياسي، خالية من المواقف الواضحة أو الاعتراف الصريح بالجريمة التي ارتكبت.
وفي سياق رمزي، دعت جهات يابانية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى زيارة هيروشيما وناغازاكي في هذه الذكرى، في محاولة لإحياء الحوار حول أبعاد القصف النووي الأخلاقية والسياسية.
صمت عن الجريمة.. ورسالة عن المستقبل
الصمت الجماعي عن ذكر الولايات المتحدة – المنفذ الوحيد للهجوم النووي في التاريخ – يثير تساؤلات عن العدالة التاريخية، والمحاسبة، وحق الضحايا في الاعتراف الرسمي بمعاناتهم. لكنه أيضًا يعكس صراعًا مستمرًا بين الأخلاق والدبلوماسية في عالم يزداد فيه السلاح النووي حضورًا في السياسة الدولية.
ورغم مرور ثمانية عقود، لا تزال آثار هذه الجريمة حاضرة في الضمير الإنساني العالمي. تُقام سنويًا في السادس والتاسع من أغسطس مراسم السلام في هيروشيما وناغازاكي لتخليد الذكرى، وتجديد المطالبة بعالم خالٍ من الأسلحة النووية.
لا مزيد من هيروشيما
ثمانون عامًا مرّت على تلك اللحظة التي احترقت فيها مدينة كاملة، وما تزال الأسئلة الكبرى بلا إجابة: من يتحمل المسؤولية؟ وهل تعلّم العالم الدرس؟
وبينما يبقى القصف النووي طيّ الصمت الدبلوماسي، لا تزال هيروشيما تصرخ في وجه العالم: "لا مزيد من هيروشيما أخرى".