منذ سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024، يشهد الجنوب السوري تحولًا جذريًا في خريطته العسكرية والأمنية، مع تصاعد الحضور الإسرائيلي وتكريس وجود ميداني على الأرض تجاوز حدود العمليات الجوية التقليدية. فقد باتت التحركات الإسرائيلية في المنطقة تأخذ طابعًا منظّمًا واستراتيجيًا، يتجاوز مجرد الردع أو الاستهداف الأمني، ويتجه نحو إنشاء قواعد دائمة وربطها بشبكة من البنى التحتية العسكرية، في مشهد يعكس تغيّر قواعد الاشتباك ونقل الصراع نحو مراحل أكثر تعقيدًا.
توغل عسكري وتثبيت وجود
منذ سقوط النظام، سارعت إسرائيل إلى التوغل داخل الأراضي السورية، وصولًا إلى عمق يقدَّر بعشرات الكيلومترات جنوب غرب دمشق. هذا التقدم لم يقتصر على الانتشار البري، بل تزامن مع ضربات جوية استهدفت مواقع حيوية في البنية العسكرية السورية، كالمطارات ومراكز البحوث والدفاعات الجوية، ما مهّد فعليًا لتفكيك البنية الدفاعية التقليدية للدولة في الجنوب.
بالتوازي مع هذا التمدد، بدأت إسرائيل بإنشاء قواعد عسكرية ثابتة في محافظتي القنيطرة ودرعا. تتوزع هذه القواعد على امتداد الشريط الحدودي مع الجولان المحتل، من قمة جبل الشيخ وصولًا إلى حوض اليرموك، وتشمل مواقع متقدمة مزوّدة بمهبطات للطيران، ودبابات، وآليات ثقيلة، ومراكز مراقبة واستطلاع.
خريطة الانتشار الميداني
تشمل أبرز النقاط التي تنتشر فيها القوات الإسرائيلية:
- مرصد جبل الشيخ
- التلول الحمر في القطاع الشمالي
- قرص النفل قرب بلدة حضر
- حرش جباتا الخشب (بما فيه مهبط للطائرات المروحية)
- شرق قرية الحميدية
- سد المنطرة قرب القحطانية
- تل أحمر غربي بلدة كودنة
- منطقة القنيطرة المهدمة
- سرية الجزيرة في محافظة درعا
تؤكد المعطيات الميدانية أن هذه القواعد لا تكتفي بالتمركز، بل تنطلق منها دوريات راجلة وآلية تنفّذ عمليات تمشيط، ورصد، واعتقال في القرى المجاورة. كما يشير السكان إلى تنفيذ مداهمات متكررة، ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية والمراعي، ما تسبب بخسائر اقتصادية واسعة، فضلاً عن الأثر النفسي والمعنوي على المجتمعات المحلية.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية
تحوّلت المناطق المحيطة بهذه القواعد إلى نقاط عسكرية مغلقة. ففي حرش كودنة، وحرش جباتا الخشب، جُرفت آلاف الأشجار المعمرة، وتمت مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، بما يتجاوز 7000 دونم في بعض المناطق، وفق تقديرات محلية. وقد وُجّهت إنذارات للسكان بعدم الاقتراب من موارد مائية مهمة كـ"سد المنطرة"، ما يعكس تحول السيطرة العسكرية إلى شكل من أشكال الهيمنة البيئية والمعيشية.
أبعاد استراتيجية للوجود العسكري
يبدو أن الهدف من هذا التوسع الإسرائيلي لا يقتصر على حماية حدود الجولان المحتل، بل يتعداه إلى إنشاء منطقة أمنية عازلة دائمة داخل الأراضي السورية، وتوفير قدرة استخباراتية على مراقبة ما يدور جنوب دمشق وريفها. ويُنظر إلى السيطرة على مواقع مثل جبل الشيخ على أنها إنجاز عسكري بالغ الأهمية، نظرًا لموقعه الجيوعسكري المطل على العاصمة السورية.
دور محدود للأمم المتحدة
رغم انتشار قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF) في المنطقة منذ السبعينيات، لم يُسجل تدخل فاعل من هذه القوات لوقف التحركات الإسرائيلية أو حماية المدنيين من الانتهاكات المتكررة. هذا الغياب الفعلي للدور الأممي يُسهم في تعميق حالة الفراغ القانوني ويطرح تساؤلات حول مدى قدرة المجتمع الدولي على حماية اتفاقات لم يعد لها أثر فعلي على الأرض.
الانعكاسات القانونية والسياسية
ما يجري في الجنوب السوري يُنظر إليه على أنه خرق واضح لاتفاق فض الاشتباك لعام 1974، وانتهاك لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة. وفي ظل تراجع أدوات الرد العسكري السوري، تُطرح عدة خيارات أمام دمشق، أبرزها التحرك الدبلوماسي والقانوني على الصعيد الدولي، وتوثيق الانتهاكات ضمن ملفات يمكن عرضها أمام الهيئات الحقوقية والمحاكم الدولية.
القواعد العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري لم تعد مجرد مواقع مؤقتة، بل ترسخت كبنية أمنية متكاملة تعيد رسم التوازنات على الأرض، وتفرض معادلة جديدة يصعب تجاوزها. في ظل هذا الواقع، يجد السكان أنفسهم بين مطرقة التجريف والاعتقال، وسندان الغياب الرسمي والخذلان الدولي. وبينما يتحدث البعض عن واقع أمني جديد، يرى آخرون أن ما يحدث هو احتلال ميداني فعلي بصيغة غير معلنة، سيكون له أثر بالغ على مستقبل الجنوب السوري، سياسيًا وديموغرافيًا وأمنيًا.