كنوز عذبة تحت الأمواج: هل تنقذ ينابيع البحر سوريا من العطش؟

رزان الحاج

2025.08.03 - 11:34
Facebook Share
طباعة

 في ظلّ أزمة المياه التي تعصف بسوريا منذ سنوات، يعود إلى الواجهة مشروع ظلّ حبيس الأدراج لأكثر من ربع قرن: استثمار الينابيع العذبة المتدفقة في مياه البحر قبالة الساحل السوري. وبينما تتفاقم مؤشرات الجفاف، وانخفاض الهطول المطري، وتراجع منسوب الأنهار والينابيع والآبار، يُطرح تساؤل ملحّ: هل يمكن أن تتحوّل هذه الينابيع إلى حل استراتيجي طويل الأمد لتأمين المياه الصالحة للشرب للمناطق الساحلية والداخلية على حدّ سواء؟


مياه عذبة تتدفق في قلب البحر
تُظهر دراسات سابقة أن قبالة الشواطئ السورية يوجد ما يزيد على 14 نبعاً عذباً تتدفّق تحت مياه البحر، بعضها بضغط وكثافة عالية، بحيث شكّلت هالات مائية باردة واسعة تُعرف جيداً من قبل الصيادين والبحارة المحليين. وتميّزت بعض هذه الينابيع بهالات عذبة قطرها يصل إلى مئات الأمتار داخل البحر، وتُظهر صور المسح الحراري الجوية التي أُجريت قبل أكثر من عقدين هذه الظاهرة بوضوح، حيث تم تحديد عشرات البؤر الحرارية التي شكّلت مؤشرات واضحة لوجود مياه عذبة تتسرب تحت سطح البحر.


وتكمن أهمية هذه الينابيع ليس فقط في وفرة المياه، بل أيضاً في طبيعتها النقية، حيث تُغذّى من الجبال الساحلية عبر شبكة من الفوالق والتكوينات الجيولوجية، وتصل إلى البحر دون أن تمرّ بمناطق تلوّث صناعي أو سكني، ما يجعلها مؤهلة لأن تُستخدم مباشرة في الشرب أو في تغذية شبكات التوزيع، بعد دراسة الجوانب الفنية لذلك.


جدوى المشروع.. ومعوّقات التنفيذ
رغم القفزة التي قد يمثلها المشروع في مواجهة أزمة المياه، تبقى التحديات كبيرة. من الناحية التقنية، يتطلّب استثمار هذه الينابيع وسائل متقدمة للتحكم بالتدفق، مثل بناء منشآت داخل البحر أو استخدام تقنيات تعتمد على الضغط الطبيعي للمياه في سحبها إلى البر دون الحاجة لضخ. كما يُحتمل أن يساهم الضغط العالي لبعض الينابيع في إيصال المياه إلى مناطق مرتفعة نسبياً من دون تكاليف طاقة باهظة.


لكنّ الوصول إلى هذا الهدف يحتاج إلى سلسلة دراسات محدثة، تكمّل ما أُنجز سابقاً. يجب تحليل حجم التدفق بدقة، وقياس مدى استمراريته على مدار العام، وتقييم أثر الاستثمار على النظام البيئي البحري، إضافة إلى اختبار الكلفة مقارنة بخيارات أخرى مثل تحلية المياه أو مشاريع نقل المياه التقليدية.


إحدى العقبات الجوهرية هي غياب البنية المؤسسية المتخصصة بإدارة مشاريع من هذا النوع، وافتقار السوق المحلية لشركات ذات خبرة كافية في تنفيذ مشاريع تحت سطح البحر. ولهذا، يرى متخصصون ضرورة التعاقد مع شركات إدارة مشاريع تمتلك خبرات دولية في مجالات المياه والجيولوجيا والهيدروليك، لتكون صلة وصل بين الدولة والشركات المنفذة، وتضمن التنفيذ وفق أفضل المعايير.


الحاجة إلى إدارة متكاملة وقرار سيادي
من الجوانب الحيوية في المشروع هو ضرورة التأكد من وجود فائض مائي فعلي في منطقة الساحل، خاصة أن بعض المناطق الساحلية نفسها تعاني شحاً في الصيف. لذلك، من الضروري إعداد موازنة مائية دقيقة تأخذ في الحسبان الطلب الموسمي، ومعدل التغذية الجوفية، والهدر، واحتياجات التنمية المستقبلية. فجرّ المياه إلى مناطق بعيدة مثل العاصمة، التي تقع على ارتفاعات شاهقة، سيكون عديم الجدوى ما لم يكن الفائض ثابتاً ومستداماً.


ومن الممكن أيضاً التفكير بحلول استثمارية حديثة، كإنشاء شركات مساهمة أو أهلية بالشراكة مع الدولة، لإدارة المشروع بمرونة وتوفير التمويل اللازم. فبدلاً من انتظار التمويل الحكومي الكامل، يمكن إشراك المواطنين في المشروع، كما حدث في تجارب محلية سابقة.


مشروع استراتيجي يتطلّب رؤية وطنية
مشروع استثمار الينابيع البحرية لا يمكن اعتباره حلاً آنياً، بل هو خيار استراتيجي يحتاج إلى سنوات من الإعداد والتنفيذ. لكن إذا ما وُضعت الخطط الصحيحة، وتوفرت الإرادة السياسية والإدارية، فقد يشكل المشروع نقطة تحوّل في الأمن المائي السوري.


في الوقت ذاته، يجب ألا يُنظر إلى هذا المشروع بوصفه بديلاً وحيداً، بل كمكمل لحزمة من المشاريع التي تشمل معالجة المياه العادمة، وتحديث شبكات الري، وتحسين إدارة الموارد السطحية والجوفية، والتوسع في تقنيات التحلية حيث يمكن.


الأكيد أن بقاء هذا المشروع في الأدراج لم يعد خياراً مقبولاً. فالمياه التي تهدر تحت البحر اليوم، قد تكون غداً صمام أمان في مواجهة عطش متزايد، لا سيما في ظلّ التغيرات المناخية الحادة والتحديات التنموية المقبلة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 6