روسيا وسوريا الجديدة: مفترق نفوذ وتحولات استراتيجية

سامر الخطيب

2025.08.03 - 11:13
Facebook Share
طباعة

 تشكل زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو نقطة انطلاق حاسمة تعكس التحولات الكبرى التي طرأت على المشهد السياسي السوري، بعد سقوط النظام السابق. هذه الزيارة ليست مجرد لقاء دبلوماسي اعتيادي، بل اختبار لمدى قدرة روسيا على إعادة ضبط موقعها في سوريا التي لم تعد خاضعة لقواعد نفوذ تقليدية، بل تواجه واقعاً جديداً مع سلطة انتقالية تنفتح على شركاء إقليميين ودوليين متعددين.


على مدى السنوات الماضية، ربطت روسيا حضورها في سوريا بقدرتها على التأثير المباشر في القرار السوري ضمن إطار نظام الأسد السابق. ولكن اليوم، مع النظام الجديد الذي أعقب سقوط النظام القديم، تغيرت قواعد اللعبة بشكل جذري. بات على موسكو التعامل مع سلطة انتقالية تعيد ترتيب أولوياتها وتعمل على توسيع شبكة علاقاتها، ما يضع روسيا أمام معادلة جديدة تتطلب إيجاد توازن بين الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية واحتياجات السلطات الجديدة التي تسعى لتجنب الاحتكار لأي محور واحد.


توازنات جديدة في العلاقة بين موسكو ودمشق
تختلف البيئة السياسية في سوريا الجديدة عن تلك التي عرفتها روسيا خلال حكم الأسد المخلوع. لم تعد موسكو تتمتع بالحرية الواسعة التي كانت تتيح لها المناورة على الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية. الآن، تواجه تحدياً مزدوجاً: كيفية المحافظة على قواعدها العسكرية والاقتصادية، وفي الوقت نفسه التكيف مع سلطة انتقالية تسعى لتوسيع أطر تعاونها الإقليمي والدولي.


السلطة الجديدة تتبنى سياسة متعددة الأبعاد، تُعرف في العلوم السياسية بـ"التعددية المحورية"، التي تهدف إلى بناء شبكة واسعة من العلاقات مع قوى إقليمية ودولية، بدلاً من الانحياز لمحور واحد. في هذا السياق، لا يُنظر إلى موسكو كالمهيمنة التي تحدد مصير القرار، بل كشريك ضمن شبكة علاقات أكثر تعقيداً.


يمثل هذا التحول تحدياً لموسكو التي تدرك أن نفوذها في سوريا لا يزال موجوداً لكنه لم يعد بالحجم الذي كان عليه في عهد النظام السابق. النفوذ الروسي يتوزع اليوم بين مواقع عسكرية محدودة وعقود اقتصادية موروثة، إلى جانب الاتصالات السياسية التي تحاول موسكو تفعيلها بما يخدم استمرار دورها. من جانبها، تدير السلطة الانتقالية العلاقة بحذر، تحافظ على قنوات الاتصال مع موسكو لتجنب الانقطاع الكامل، لكنها في الوقت ذاته تبني علاقات جديدة مع قوى أخرى، سعياً إلى تنويع شراكاتها وتقليل اعتمادها على أي طرف وحيد.


ضبط الحضور العسكري ومراجعة الإرث الاقتصادي
شكل الوجود العسكري الروسي في قاعدتي حميميم وطرطوس عنصراً محورياً في تحولات السنوات الماضية، حيث لعب دور الحامي والمقرر في توازنات القوى السورية والإقليمية. غير أن سقوط النظام السابق ترك فراغاً استراتيجياً لموسكو، وأصبح عليها التفاوض حول مستقبل هذا الوجود العسكري ضمن معادلة جديدة.


الوجود العسكري الروسي ليس مجرد قاعدة دفاعية أو لوجستية، بل أداة أساسية للحفاظ على حضور موسكو في الشرق الأوسط. ومع ذلك، يبقى هذا الملف حساساً لأنه يلامس مباشرة سيادة الدولة السورية ومسائل الأمن الوطني، وهو مرتبط بالتوازنات الإقليمية المعقدة.


إضافة إلى البعد العسكري، تمثل العقود والديون الموروثة من عهد النظام السابق ملفاً اقتصادياً وسياسياً بالغ التعقيد. تحاول السلطة الجديدة مراجعة هذه العقود بما يتناسب مع أولوياتها الجديدة، وهذا يفتح الباب أمام إعادة تفاوض محتملة قد تؤدي إلى تعديل جذري في العلاقة الاقتصادية والسياسية مع روسيا. أي تغيير في هذه العقود يمكن أن يُفسر في موسكو كإشارة إلى تحول شامل في طبيعة الشراكة.


تحديات سياسية وحساسية تاريخية
يترافق التغير في العلاقة مع روسيا مع حساسية كبيرة داخل سوريا، إذ تحمل ذاكرة السنوات الماضية صورة معقدة لموسكو، باعتبارها طرفاً فعالاً في الصراع والتدخل الذي كلف سوريا الكثير. لذا، أي خطوة في إعادة ترتيب العلاقات يجب أن تكون محسوبة ومدروسة بدقة، تحترم الحساسيات الداخلية وتدير المخاطر السياسية بحذر.


زيارة الشيباني لموسكو تشكل بداية لمسار تفاوضي لا يخلو من التعقيد. تسعى موسكو إلى الحفاظ على موقعها الاستراتيجي عبر صيغة جديدة من الشراكة، في حين تحاول دمشق الجديدة تحقيق توازنات دقيقة تضمن استقلالية القرار مع استثمار فرص التعاون المتاحة.


مآلات محتملة وتحولات إقليمية
نجاح هذه الزيارة ومسار التفاوض المرتقب قد يرسما خطوطاً جديدة للشراكة الروسية-السورية، تسمح لموسكو بالاحتفاظ بحضور مؤثر، وتتيح لدمشق حرية أكبر في إعادة ترتيب أولوياتها الخارجية. أما الفشل، فقد يمهد لانزياح تدريجي نحو شركاء آخرين يعيد تشكيل خريطة النفوذ في سوريا ويقلص من وزن موسكو الإقليمي.


تشير تجارب دول أخرى مثل جورجيا والسودان إلى أن الفترات الانتقالية تحمل تحديات كبيرة في إعادة تعريف العلاقات الخارجية، حيث تتحول التفاوضات إلى موازنة بين الحفاظ على السيادة ومصالح القوى الخارجية. وفي سوريا الجديدة، يأتي هذا التفاوض ليؤكد أن المرحلة الراهنة لا تسمح بتحالفات مطلقة، بل تتطلب مرونة في بناء شراكات تواكب واقعاً سياسياً معقداً ومتغيراً.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 6