في ظل تصاعد التوترات الداخلية في بعض المحافظات السورية، يتزايد القلق الرسمي والشعبي من حملات تضليل إعلامي ممنهجة، تُبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتستهدف النسيج الاجتماعي، وتؤجج الانقسام الطائفي والمناطقي. وتشير معطيات تحليلية إلى أن آلاف الحسابات الرقمية تنشط في هذه الحملات، مستفيدة من ضعف المواجهة الرسمية وغياب خطاب إعلامي موحّد قادر على صدّها.
الحملات الأخيرة ترافقت مع أحداث شهدتها مناطق مثل السويداء، حيث لاحظ متابعون تدفقاً مكثفاً لمحتوى مفبرك أو مجتزأ، يقدّم معلومات مشوهة، أو صوراً منسوبة زيفاً للأحداث الجارية. يعتمد هذا المحتوى على ما يُعرف بـ"نصف الحقيقة"، وهي استراتيجية إعلامية تعتمد على اجتزاء السياق، أو إعادة توظيف مشاهد قديمة، بما يخدم أهدافاً سياسية أو طائفية.
أنماط التضليل وآلياته
رُصدت عدة أنماط رئيسية لهذا النوع من الخطاب المضلل. أولها، تضخيم الأخبار المحلية الصغيرة، وعرضها كأحداث كبرى تثير الهلع والانقسام. ثانيها، اختلاق أخبار غير صحيحة بالكامل، تتداولها بعض القنوات والمجموعات دون تحقق. كما لوحظ أن بعض هذه المواد ترافقها رموز أو شعارات طائفية، تُوظّف لشيطنة طرف بعينه أو لتبرير العنف ضده.
التضليل أيضاً اتخذ طابعاً أكثر احترافية من خلال تقارير مزيفة منسوبة لقنوات دولية، أو عبر منشورات شخصيات مؤثرة في الإعلام والفن والسياسة. وتبيّن أن الكثير من المتابعين يقعون ضحية "التحامل التأكيدي"، أي الميل لتصديق الأخبار التي تتفق مع معتقداتهم المسبقة، ما يجعلهم أكثر عرضة لتأثير الشائعات.
جهات تنشط من الخارج
التحليلات الرقمية أظهرت أن كثيراً من الحسابات التي تروّج للمحتوى المضلل لا تدار من داخل البلاد، بل تنشط في دول مختلفة وتستخدم اللغات الأجنبية، خصوصاً الإنكليزية والفرنسية، بهدف التأثير على الرأي العام الدولي. كما تكررت مشاركة محتوى يتضمن رموزاً سياسية حساسة، مثل علم الاحتلال الإسرائيلي أو شعارات دينية متطرفة، بهدف استفزاز مشاعر المستخدمين وإثارة الانقسامات.
وتُتهم جهات مختلفة باستخدام هذه الحملات لتحقيق أهدافها داخل سوريا، منها كيانات دولية وأطراف إقليمية، إضافة إلى جماعات إعلامية موجهة تستفيد من هشاشة البيئة الإعلامية الرسمية، وتعطّل أدوات الرقابة والمواجهة الرقمية.
فجوة الثقة مع الإعلام الرسمي
واحدة من أبرز نقاط الضعف التي يستغلها التضليل الإعلامي هي فجوة الثقة بين الجمهور المحلي ووسائل الإعلام الرسمية، التي غالباً ما تتأخر في الرد أو تمتنع عن تقديم رواية مقنعة للأحداث. وقد دفع هذا البطء في التفاعل كثيرين للاعتماد على مصادر بديلة، قد تكون غير موثوقة.
كما أن الأداء الإعلامي الرسمي وُصف أحياناً بالمنحاز أو غير المهني، ما أفقده المصداقية في بعض الأوساط الشعبية، وفتح المجال أمام روايات مضللة لتملأ الفراغ.
الاستجابة المطلوبة
في مواجهة هذا الواقع، يطالب كثير من الصحفيين والمهتمين بالشأن الإعلامي بضرورة إنشاء هيئة وطنية مستقلة، أو مكتب متخصص لمكافحة التضليل الإعلامي والشائعات، تكون مهمته رصد ومتابعة المنشورات المغلوطة، وتفنيدها بشكل فوري، وتقديم رواية موثقة وشفافة. كما يدعون إلى تطوير أدوات الرصد الرقمي، وإطلاق حملات توعية مجتمعية لمساعدة الجمهور في التمييز بين الأخبار الحقيقية والمزيفة.
بعض المبادرات الفردية ظهرت بالفعل، كان من أبرزها نشر أخبار وهمية بشكل متعمّد من قبل صحفيين للتحقق من مدى مصداقية المنصات الناقلة، وقد أظهرت هذه المبادرات أن عدداً كبيراً من الصفحات والمراصد الإخبارية تنشر دون تحقق، ما يزيد من أهمية تأسيس آلية للرد السريع.
القيود التقنية والعقوبات
الجهات الرسمية تواجه تحديات حقيقية في مواجهة التضليل الرقمي، ليس أقلها العقوبات الدولية التي تمنع التواصل المباشر مع شركات التكنولوجيا الكبرى. هذه القيود تعيق تقديم الشكاوى أو الوصول إلى أدوات الدعم، والإعلانات، وحتى الوصول إلى أدوات تحليل المحتوى.
ومع ذلك، يجري العمل بالتعاون مع بعض الدول الصديقة لتجاوز هذه القيود، إضافة إلى تطوير تقنيات محلية لمحاولة الرصد والرد، وذلك ضمن تنسيق مشترك بين وزارات الإعلام والاتصالات والداخلية.
الإعلام كأداة ردع أو فتنة
في ختام المشهد، تبدو الحرب الإعلامية الرقمية أكثر تعقيداً من مجرد شائعة عابرة. إنها معركة على الوعي، تتجاوز الحدود الجغرافية، وتؤثر في الأمن الداخلي والاستقرار المجتمعي. فالإعلام يمكن أن يكون أداة وطنية للدفاع عن الحقيقة، أو وسيلة لتغذية الكراهية والفرقة.
الرد الفعّال يبدأ من الداخل، من بناء وعي إعلامي حقيقي، ومن وجود مؤسسات قادرة على المواجهة السريعة، ومن خطاب وطني جامع، يعيد الثقة المفقودة ويحصّن المجتمع أمام حملات التضليل العابرة للحدود.