في شوارع الضفة الغربية المحتلة، لا يركض الأطفال نحو اللهو، بل نحو لحظة يجب أن تُوثق.
الهواتف المحمولة بين أيديهم تحولت من أداة ترفيه إلى أداة بقاء، في زمن تشح فيه العدالة وتُحجب فيه الكاميرات الرسمية عن الحضور، تولى الأطفال بأنفسهم سرد الحكاية: عبر عدسات تيك توك.
اقتحامات ليلية وطفولة محاصرة:
خلال الأعوام الماضية، تصاعد العنف ضد الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية، ليتجاوز مجرد الأذى الجسدي إلى التهديد المستمر بالنفي والتشريد والسجن.
وفق تقارير أممية، بلغت انتهاكات الاحتلال بحق الأطفال مستويات غير مسبوقة، حيث رُصدت عمليات اقتحام ليلية متكررة، واعتقال قُصر، وهدم منازلهم أو منازل ذويهم، مما يخلق بيئة غير آمنة تُجبرهم على اليقظة الدائمة.
عدسة الهاتف كدرع حماية:
يشير تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في العام الماضي إلى تسجيل أكثر من 140 عملية مداهمة ليلية شهرياً في الضفة الغربية، غالباً ما تتم في حضور أطفال.
كما وثقت منظمة "بتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية 70 حالة اعتقال أو تحقيق مع قاصرين فقط بسبب استخدامهم الهواتف لتصوير المداهمات أو نشر محتوى على تيك توك.
حذف المحتوى الرقمي: طمس الشهادة:
في سياق متصل، يكشف تحقيق أجرته منظمة "إف تي إي" لمراقبة حرية الإنترنت عن حذف أكثر من 940 مقطع فيديو فلسطيني من تيك توك نصفها تقريباً التقطها قاصرون.
وقد بررت المنصة الحذف بأنه خرق لسياسات العنف، بينما انتقدت منظمات دولية هذا التبرير، معتبرة أن المحتوى يعرض انتهاكات لا يُراد للعالم رؤيتها.
المنصة التي لم تعد للترفيه فقط:
تشير دراسة أعدتها جامعة بيرزيت حول استخدام الإعلام الرقمي بين القاصرين الفلسطينيين إلى أن 83% من الأطفال بين 10 إلى 17 عاماً يمتلكون حساباً نشطاً على تيك توك، و41% منهم نشروا على الأقل مقطعاً متعلقاً بالوضع السياسي أو الإنساني المحيط بهم.
كما أشار تقرير مشترك صادر عن هيومن رايتس ووتش واليونيسف إلى أن الأطفال الفلسطينيين يتعرضون لاعتداءات منظمة تمس حقوقهم الرقمية، بما في ذلك التضييق على حرية النشر الرقمي، وحذف محتوياتهم بصورة ممنهجة.
صورة تختصر وجع المكان:
يعكس المحتوى الذي ينتجه الأطفال وعياً حاداً بتأثير الصورة.
إن اختيارهم لتوثيق مشاهد معينة دون غيرها يُظهر فهماً لسردية إعلامية يريدون تصديرها للعالم.
الطفل المصور لا يبحث عن البطولة، إنما عن الشهادة على الواقع.
وهو لا يقف خلف الكاميرا لمجرد الرغبة في التعبير، فالصورة قد تكون وسيلته الوحيدة في فضح ما لا تُظهره وسائل الإعلام الدولية.
لحظة التوثيق بين اللعب والخوف:
يبدو أن تيك توك، رغم طبيعته الترفيهية، تحول إلى ساحة مواجهة غير مباشرة، الطفل الذي يصور الجرافة تهدم منزله، لا يصرخ، لا يطلب العون، فقط يوثق.
إن فعل التوثيق هنا يحمل بعداً سياسياً بقدر ما هو إنساني إنها مقاومة رمزية تسحب شرعية الصمت العالمي، وتزرع في المتابعين بذور التساؤل.
أرشيف رقمي مقابل الرواية الرسمية:
بينما تسعى المؤسسات الرسمية إلى إنتاج تقارير سنوية توثق الانتهاكات، يقوم الأطفال يومياً بإنتاج وثائق حية، لحظية، شخصية، ومباشرة.
هذه الفيديوهات تشكل أرشيفاً موازياً لرواية لم تُكتب بعد في كتب التاريخ وبغياب الصوت الرسمي، يصبح صوت الطفل هو المرجع.
من ضحية إلى صانع سردية:
المفارقة أن هؤلاء الأطفال، رغم أنهم ضحايا في نظر القانون الدولي، يتجاوزون هذا التصنيف حين يمسكون بالكاميرا. يتحولون من مجرد "أرقام في تقارير" إلى فاعلين يصوغون السردية.
ذاكرة الهاتف والقضية:
جيل تيك توك المقاوم لا يملك أدوات سياسية ولا منصات تقليدية، لكنه يملك عيناً مفتوحة على الواقع، وهاتفاً يسجل.
بهذا فقط، يصبح قادراً على تحويل المأساة إلى مادة للتفكير العالمي إنه جيل لا يُرهب بالخراب، يواجهه بلقطة، ويترك العالم أمام مرآة صادقة، لا تحتاج لتعليق.