في الوقت الذي تشتد فيه وتيرة التضييق على الهجرة في أنحاء الاتحاد الأوروبي، كشفت بيانات حديثة صادرة عن معهد الإحصاء الأوروبي (يوروستات) في 11 يوليو/تموز 2025، أن الهجرة باتت تشكل المحرك الوحيد للنمو السكاني في القارة العجوز، التي تعاني من أزمة ديمغرافية متفاقمة، حيث فاقت أعداد الوفيات أعداد المواليد بما يزيد عن 1.3 مليون نسمة سنويًا.
ووفقًا للأرقام، بلغ صافي الهجرة الإيجابي إلى دول الاتحاد في عام 2024 نحو 2.3 مليون شخص، وهو ما ساهم في تعويض العجز السكاني الطبيعي، ليصل عدد سكان الاتحاد الأوروبي إلى 450.4 مليون نسمة في بداية 2025.
الهجرة تحافظ على النمو السكاني
بيانات يوروستات، التي نشرتها صحيفة تلغراف البريطانية، أوضحت أن الزيادة السكانية المُسجلة خلال العام الماضي لم تكن نتيجة لزيادة طبيعية، بل بفضل موجات الهجرة. ففي الوقت الذي بلغت فيه الوفيات 4.82 ملايين نسمة، لم يتجاوز عدد المواليد 3.56 ملايين، ما يعكس تراجعًا كبيرًا في معدلات الخصوبة في معظم دول الاتحاد الأوروبي.
وبينما بلغ صافي الهجرة الإيجابي 2.3 مليون شخص، لم تزد الزيادة السكانية العامة عن 1.07 مليون فقط، وهو ما يشير إلى أن الاتحاد الأوروبي مقبل على مرحلة ديمغرافية حرجة ستتحدد ملامحها وفق السياسات المتبعة في ملف الهجرة.
التناقض الأوروبي: الحاجة للمهاجرين مقابل القيود
رغم هذه المعطيات التي تشير إلى الدور المحوري للهجرة في استقرار التركيبة السكانية، فإن عدة حكومات أوروبية لا تزال تتبنى سياسات متشددة ضد المهاجرين، مدفوعة بموجة صعود اليمين المتطرف في القارة، الذي يربط الهجرة بالتهديدات الثقافية والأمنية.
تقرير لموقع "RBB" الألماني لفت إلى أن نسبة السكان المولودين في الخارج داخل الاتحاد الأوروبي ارتفعت من 13.6% عام 2023 إلى 14.1% عام 2024، ما يعادل أكثر من 63 مليون نسمة، مقارنة بـ41 مليوناً فقط عام 2010.
ألمانيا كانت الوجهة الأبرز، حيث ارتفع عدد المهاجرين فيها من 11 مليوناً عام 2015 إلى 17.4 مليوناً عام 2024، أي ما يعادل 20.9% من سكانها. وفي إسبانيا، ارتفع العدد من 5.9 ملايين إلى 8.8 ملايين خلال نفس الفترة، ما يعادل 18.2% من عدد السكان.
شيخوخة سريعة وأزمات اقتصادية متوقعة
منذ عام 2011، حين بدأت أعداد الوفيات تتجاوز أعداد المواليد في الاتحاد الأوروبي، أصبحت الهجرة بمثابة صمام الأمان الوحيد للنمو السكاني. وعاد هذا الاتجاه بعد تراجع مؤقت بسبب جائحة كوفيد-19 التي فرضت إغلاقات واسعة.
في عام 2024، سجلت مالطا أعلى معدلات نمو سكاني بفضل صافي الهجرة، حيث بلغ 19 لكل ألف نسمة. بينما شهدت دول مثل لاتفيا والمجر، التي تتبع سياسات هجرة تقييدية، انخفاضًا كبيرًا في عدد السكان.
فرنسا مثال على التباطؤ
تقرير لصحيفة لاكروا الفرنسية أوضح أن فرنسا دخلت مرحلة تباطؤ ديمغرافي دائم. في عام 2022، شكل المهاجرون 10.3% من سكان فرنسا، لكنهم ساهموا بحوالي 75% من الزيادة السكانية في نفس العام.
ويرى الخبراء أن الهجرة باتت ضرورة حتمية للحفاظ على التوازن السكاني، في ظل انخفاض الخصوبة إلى 1.8 مولود لكل امرأة، بعد أن كانت 2.0 قبل عشر سنوات. ويُحذر نائب مدير معهد مونتين الفرنسي من أن التباطؤ الديمغرافي في فرنسا لا يمكن وقفه دون فتح أبواب الهجرة.
سيناريوهات قاتمة إن توقفت الهجرة
تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية رسم سيناريوهين لمستقبل سكان أوروبا بحلول عام 2100. الأول يفترض استمرار الهجرة بمعدلها الحالي، والثاني يتجاهل الهجرة تمامًا. في السيناريو الثاني، تتراجع أعداد السكان الأصليين بشكل كبير، مع تفاقم الشيخوخة وازدياد الضغوط على أنظمة الرعاية الاجتماعية.
مثال على ذلك، قد ينخفض عدد سكان ألمانيا من 83 مليوناً إلى 53 مليوناً بحلول نهاية القرن في حال توقفت الهجرة. وفي فرنسا، سينخفض العدد من 68 مليوناً إلى 59 مليوناً، فيما قد تخسر إيطاليا أكثر من نصف سكانها.
كما يُتوقع أن تصل نسبة من يبلغون 65 عاماً أو أكثر إلى 36% من سكان الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2100 إذا تم إيقاف الهجرة، مقارنة بـ21% حالياً.
تحديات اقتصادية واجتماعية قادمة
أزمة الشيخوخة تعني ارتفاعاً في نفقات التقاعد والرعاية الصحية، وانخفاضاً في أعداد الأيدي العاملة. ويؤكد أستاذ الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد، آلان مانينغ، أن أوروبا ستشهد تحولاً ديمغرافياً حاداً سيزيد العبء الضريبي ويؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي.
كما أن اعتماد أنظمة الرعاية الصحية والتعليم في أوروبا على الأطباء والمعلمين من خلفيات مهاجرة يجعل من الهجرة عامل استقرار، لا تهديد.
قرى مهددة بالانقراض
تقرير الغارديان أشار إلى قرية "كاميني" في جنوب إيطاليا كمثال حي على خطر الانقراض السكاني. عبر مشروع لإعادة توطين اللاجئين، تمكنت القرية من رفع عدد سكانها من نحو 300 إلى أكثر من 350 نسمة، وإعادة فتح المدرسة المحلية.
وبحسب القائمين على المشروع، جلب المهاجرون مهارات ساعدت على إنعاش الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل كانت شبه معدومة سابقاً.
الهجرة ليست كافية وحدها
رغم كل هذه المعطيات، يحذر الخبراء من أن الاعتماد على الهجرة فقط لا يكفي. فهناك حاجة لتوسيع مشاركة النساء وكبار السن في سوق العمل، وإصلاح سياسات التقاعد، وتوفير تدريب مهني للمهاجرين الجدد، حتى يكونوا مساهمين حقيقيين في الاقتصاد لا عبئًا عليه.
كما أن سياسات الإدماج الفعّال تبقى ضرورية لتحويل موجات الهجرة إلى فرصة للنمو، بدلًا من أن تكون أداة بيد الخطابات الشعبوية التي تروج للخوف والانقسام.