زيادة الرواتب في سوريا.. أرقام تذوب بالأسواق

رزان الحاج

2025.07.12 - 01:00
Facebook Share
طباعة

 في منتصف حزيران 2025، أُعلنت واحدة من أكبر زيادات الرواتب في تاريخ سوريا، بنسبة وصلت إلى 200% للعاملين في القطاع العام والمتقاعدين، إلى جانب رفع الحد الأدنى للأجور إلى 750 ألف ليرة سورية. لكن رغم الأرقام الكبيرة، سرعان ما بدأت التساؤلات تتصاعد: هل تكفي هذه الزيادة لتحسين معيشة السوريين؟ أم أنها مجرد قفزة رقمية سرعان ما تبتلعها الأسواق الملتهبة بالأسعار؟


وعود كبيرة.. وتأخير في التنفيذ
على الورق، بدت الزيادة بمثابة طوق نجاة للملايين ممن يعيشون تحت خط الفقر، بعد سنوات من تآكل الرواتب وتضخم الأسعار. لكن على أرض الواقع، اصطدم الموظفون بتأخر صرف الزيادة حتى مطلع آب، ما أثار استياءً واسعاً، خاصة في ظل نصوص المرسوم التي كانت توحي بصرفها بدءاً من الشهر الذي تلاه مباشرة.


اللبس لم يكن في المرسوم ذاته، بل في التعليمات التنفيذية المرافقة له، والتي شابها الغموض، سواء من حيث آلية تطبيق الزيادة أو الجهات المشمولة بها، ما فتح باباً واسعاً للتأويل والجدل.


جدل واسع حول التعليمات التنفيذية
جاءت التعليمات التنفيذية لتزيد الغموض، خاصة فيما يتعلق ببعض التفاصيل كالعلاوات، والحد الأدنى للأجور، والجهات التي يشملها القرار بشكل فعلي. كثيرون رأوا أن هذه التعليمات لا ترتقي إلى مستوى المهنية المطلوبة، واعتبروا أنها تحتاج هي الأخرى إلى "تعليمات تنفيذية" لفهمها، في ظل غياب لغة قانونية واضحة ومباشرة.


الأثر الفوري لهذا الغموض كان حالة من الإرباك في مؤسسات الدولة، وتفاوت في تطبيق التعليمات بين وزارة وأخرى، مما زاد من شعور الإحباط لدى الموظفين الذين كانوا ينتظرون الزيادة بفارغ الصبر.


التضخم يسبق الزيادة
في الشارع السوري، لم يكن كثيرون يعولون على الزيادة كحل جذري، بل كدفعة مؤقتة في معركة يومية مع الغلاء. إذ لطالما سبقت الأسعار أية زيادة في الرواتب، وتكررت التجربة ذاتها مرات عديدة، حيث تشهد الأسواق موجة ارتفاعات مباشرة عقب الإعلان عن أي تحسين في الأجور.


بعض المواطنين لاحظوا أن أسعار السلع الأساسية، خصوصاً الغذائية منها، بدأت بالارتفاع بمجرد الحديث عن الزيادة، دون انتظار صرفها فعلياً. التوقعات العامة للسوق تتجه دائماً نحو التضخم، ما يدفع التجار إلى تعديل أسعارهم مسبقاً، الأمر الذي يؤدي إلى تآكل الزيادة قبل أن تصل إلى جيوب الموظفين.


الأرقام لا تكفي وحدها
فعلياً، ووفقاً لحسابات بسيطة، فإن الزيادة الحالية لا تغطي أكثر من 20% من الاحتياجات الشهرية للأسرة السورية المتوسطة. فالراتب الذي كان يعادل في الماضي ثمن كرتونة زيت واحدة، ما زال بالكاد يغطيها رغم مضاعفته. في المقابل، ارتفعت أسعار بعض المواد بنسبة تجاوزت 150% خلال نفس الفترة، ما يعني أن التضخم ما زال العدو الأبرز لأي تحسن رقمي في الرواتب.


كذلك الأمر مع الأدوية، وخاصة المزمنة، التي باتت تستنزف جزءاً كبيراً من دخل المتقاعدين وكبار السن. كثيرون باتوا يخصصون نصف رواتبهم لتأمين العلاج، تاركين القليل جداً لبقية متطلبات الحياة.


رغيف الخبز ومؤشر الأمان
من بين المؤشرات التي تقيس بدقة حالة المعيشة في سوريا، يبقى رغيف الخبز هو الأكثر أهمية. فبعد تحرير سعره، ورفع الدعم عنه بشكل جزئي، تحول إلى معضلة يومية، خاصة لدى الأسر محدودة الدخل. وتُظهر التجارب السابقة أن أية زيادة في سعر الخبز تترك أثراً فورياً وعميقاً في قدرة المواطن على الاحتمال.


ترافق هذا مع ارتفاع أسعار المواصلات، والغاز، والمحروقات، ما أضاف أعباء جديدة على ميزانيات الأسر. وهو ما يدفع باتجاه سؤال جوهري: ما جدوى الزيادة إذا ترافق معها ارتفاع في أسعار الخدمات والسلع الأساسية؟


هل تحسنت القدرة الشرائية فعلاً؟
رغم كل ما سبق، يشير بعض الخبراء إلى أن الزيادة الأخيرة كان لها أثر إيجابي نسبي على القدرة الشرائية، خصوصاً مع بقاء سعر الصرف مستقراً عند حدود 10 آلاف ليرة للدولار الواحد. ويُعتقد أن هذا الاستقرار ساهم في إبطاء وتيرة ارتفاع الأسعار في بعض القطاعات، وخاصة السلع المستوردة.


بحسب تقديرات اقتصادية، فقد تحسنت القدرة الشرائية للدخل بنسبة تراوحت بين 15 إلى 20%، وهو تحسن ملموس مقارنة بالفترات السابقة، لكنه لا يكفي لوحده لتغيير جذري في مستوى المعيشة، طالما أن السوق يعمل بمنطق العرض والطلب دون رقابة فعالة.


القطاع الخاص.. بين الحرج والتحدي
واحدة من الآثار غير المباشرة لزيادة رواتب القطاع العام هي الضغط على مؤسسات القطاع الخاص لتحسين أجور موظفيها. فمع الفارق الكبير الذي قد ينشأ بين رواتب القطاعين، تجد بعض الشركات نفسها مضطرة لمجاراة الزيادة، لا سيما للحفاظ على الكفاءات، ما يشكل عبئاً إضافياً في ظل بيئة اقتصادية صعبة.


غير أن ذلك لا يمكن تعميمه، فغالبية مؤسسات القطاع الخاص ما زالت تعاني من تراجع الأرباح وارتفاع التكاليف، ما يجعل من زيادة الرواتب خطوة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لها.


التحدي الأكبر: ضبط الأسواق
التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في زيادة الرواتب، بل في القدرة على منع الأسواق من امتصاص هذه الزيادة. فبغياب رقابة فعالة، واستمرار حالة الفوضى في التسعير، ستتآكل أية تحسينات خلال أشهر، وربما أسابيع.


ويبدو أن الحلول لن تكون مجدية ما لم تقترن بإصلاح شامل في السياسات الاقتصادية، ودعم حقيقي للسلع الأساسية، واعتماد أدوات فعالة لضبط السوق، بما في ذلك تشجيع التعاملات المالية الرقمية، للحد من السوق السوداء ومراقبة حركة الأموال.


مسك الختام: أرقام لا تسمن
في نهاية المطاف، الزيادة التي انتظرها السوريون بفارغ الصبر، لا يمكن أن تُقاس فقط بحجم الرقم، بل بما تعنيه من أثر فعلي على حياة الناس. ومادامت الأسعار ترتفع بلا رقيب، والرواتب لا تواكب معدلات التضخم، فإن أي زيادة مهما بلغت ستبقى عاجزة عن إحداث فرق حقيقي.


إنها معركة مستمرة، لا تُحسم بالقرارات وحدها، بل بمنظومة متكاملة تبدأ من الاستقرار النقدي، ولا تنتهي إلا عند طمأنة المواطن بأن خبزه ودواءه لن يكونا مرهونين بمزاج السوق.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 4