في سوريا، لا يُقاس الحزن فقط بعدد القتلى، بل أيضًا بعدد المفقودين الذين ابتلعتهم السجون واختفوا قسرًا دون أثر. خلف هؤلاء، تقف عائلاتهم، وخاصة النساء، في مواجهة الغياب المزدوج: غياب الأحبة، وغياب العدالة. بين الألم والانتظار، تعيش آلاف العائلات في معاناة مستمرة، حيث لا معلومات مؤكدة، ولا سُبل قانونية تضمن حقوقهم.
على مدار عقود من الحكم الأمني، تحول الاعتقال والإخفاء القسري إلى أداة تستخدمها السلطات لقمع الخصوم السياسيين ونشر الخوف في المجتمع. تفاقمت هذه الظاهرة خلال سنوات الحرب، حيث وثّقت تقارير حقوقية وجود عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرًا. في ظل غياب إجراءات شفافة للكشف عن مصيرهم، تعيش العائلات في حالة انتظار دائم، ممزقة بين الأمل واليأس.
النساء في مواجهة المصير المجهول
كانت النساء الأكثر تضررًا من تداعيات الاختفاء القسري. كثيرات وجدن أنفسهن فجأة المعيل الوحيد للأسرة بعد فقدان الزوج أو الابن أو الأخ. تحملن أعباء نفسية واجتماعية واقتصادية، في ظل مجتمع ينظر إليهن أحيانًا بالشفقة، وأحيانًا أخرى بالريبة. ورغم ذلك، أصبحن رموزًا للصمود، حيث قمن بدور نشط في البحث عن ذويهن، والمطالبة بالكشف عن مصيرهم، رغم المخاطر والضغوط التي تحيط بهن.
استغلال المعاناة: بين الابتزاز والأمل الزائف
لم تقتصر معاناة العائلات على الألم النفسي فقط، بل تعرضت العديد من النساء للابتزاز المالي من قبل سماسرة وأفراد مرتبطين بالأجهزة الأمنية، حيث تحولت مأساة البحث عن المعتقلين إلى سوق سوداء تدر أرباحًا للبعض على حساب معاناة الآخرين. كثير من النساء اضطررن إلى دفع مبالغ طائلة مقابل وعود بالكشف عن مصير أحبائهن، إلا أن هذه الوعود غالبًا ما كانت كاذبة.
من منظور حقوقي، يُعد الاختفاء القسري من أخطر الانتهاكات، لكونه يترك الأسر في حالة دائمة من العذاب والقلق. وفقًا للقانون الدولي، تمتلك العائلات الحق في معرفة الحقيقة، والمطالبة بالعدالة، وتعويض الضرر الذي لحق بها. رغم الحديث عن العدالة الانتقالية والمصالحة، إلا أن الجهود في هذا المجال لا تزال غير كافية، حيث لم يُتخذ أي إجراء جاد لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
النساء اللواتي فقدن ذويهن لا يبحثن فقط عن معرفة مصيرهم، بل يطالبن بمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات. وفقًا لتقارير حقوقية، هناك أكثر من 100 ألف شخص ما زالوا في عداد المفقودين، دون أي خطوات جدية للكشف عن مصيرهم.
مع تغير المشهد السياسي في سوريا، يبقى الاختبار الحقيقي هو مدى قدرة السلطات الجديدة على تحقيق العدالة، وضمان عدم تكرار هذه الجرائم. العدالة الانتقالية ليست خيارًا ثانويًا، بل ضرورة أساسية لإعادة بناء الثقة المجتمعية. إن لم تُعالج هذه القضية بجدية، سيظل الماضي حاضرًا، وسيبقى الألم متجذرًا في حياة آلاف العائلات.
رغم محاولات التجاهل أو النسيان، تبقى أصوات العائلات، وخاصة النساء، شاهدة على مرحلة من القهر والعنف. إن العدالة المؤجلة ليست نهاية المطاف، بل بداية اختبار حقيقي لسوريا الجديدة؛ فإما أن تكون دولة قانون، أو تظل رهينة ماضيها.