في لحظة فارقة من تاريخ سوريا، تتعالى الأصوات المطالبة بالحقيقة والعدالة والمساءلة، وسط مشهد سياسي وعسكري معقد، حيث يرسم تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة، الذي عرضه رئيسها باولو سيرجيو بينيرو أمام مجلس حقوق الإنسان، صورة قاتمة للوضع الراهن لكنه في الوقت ذاته يفتح نافذة للأمل، مشيرًا إلى أن الطريق نحو مستقبل أكثر استقرارًا يمر عبر معالجة جراح الماضي والاعتراف بالانتهاكات التي شهدتها البلاد.
بين الحاجة إلى العدالة والخوف من تكرار المأساة
أكد بينيرو أن الشعب السوري هو صاحب القرار في تحديد شكل العدالة التي يسعى إليها، سواء عبر البحث عن الحقيقة، الكشف عن مصير المختفين، أو تنفيذ الإصلاحات اللازمة لضمان عدم تكرار الفظائع. هذا الطرح يعكس إدراكًا عميقًا بأن أي عملية انتقالية لن تكون ذات معنى دون الاعتراف بحجم الانتهاكات وإيجاد آليات لإنصاف الضحايا.
ولكن، هل تملك السلطات السورية القدرة والإرادة على تحقيق ذلك؟ الحكومة المؤقتة أمام تحدٍ كبير لإثبات جديتها في محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات التي حدثت في الماضي والحاضر.
العنف المستمر.. هل نشهد إعادة إنتاج الصراع؟
رغم الحديث عن مسار جديد، فإن العنف لم يتوقف، بل إن بعض المناطق تشهد تصعيدًا ينذر بعودة الصراع إلى مستويات أوسع. التقارير التي تشير إلى مقتل مئات المدنيين في اللاذقية وطرطوس، واستمرار التهديدات الأمنية في الشمال والجنوب، كلها مؤشرات على هشاشة الوضع الأمني. كما أن استمرار وجود الجيوش الأجنبية على الأراضي السورية يعقّد أي محاولة لإيجاد حل شامل ومستدام.
فالمعادلة الأمنية في سوريا لا تقتصر على الجماعات المسلحة المحلية، بل تشمل أطرافًا دولية مثل إسرائيل التي كثّفت هجماتها في الجنوب، وداعش الذي لا يزال ينشط في بعض المناطق، مما يعزز حالة عدم الاستقرار ويجعل من الصعب تحقيق أي تقدم سياسي حقيقي.
الاقتصاد المتدهور.. عامل رئيسي في استمرار الأزمة
في ظل العقوبات الدولية، وشح التمويل الإنساني، يعاني السوريون من وضع اقتصادي كارثي. الأزمة الاقتصادية لم تؤدِ فقط إلى تفاقم معاناة المواطنين، بل أصبحت أيضًا عاملًا محفزًا للعنف، حيث تدفع الظروف المعيشية القاسية بعض الفئات نحو خيارات متطرفة.
المطالبة بإنهاء العقوبات القطاعية وإزالة العقبات أمام إعادة الإعمار تثير تساؤلات حول مدى واقعية تحقيق ذلك في ظل استمرار الانقسامات السياسية، ووجود مخاوف دولية من أن تخدم هذه الإجراءات أطرافًا بعينها دون تحقيق فائدة حقيقية للمواطنين.
المشهد السياسي.. هل يمهد الدستور الجديد لمستقبل مختلف؟
أحد التطورات المهمة التي أشار إليها التقرير هو الإعلان الدستوري الجديد، الذي سيشكل الإطار القانوني للبلاد خلال السنوات الخمس المقبلة. ولكن السؤال الجوهري هنا: هل سيكون هذا الدستور كافيًا لإعادة بناء الثقة بين الشعب والسلطات؟ أم أنه مجرد وثيقة أخرى ستضاف إلى قائمة المبادرات غير الفاعلة؟
ما سيحدد نجاح هذا المسار هو مدى قدرة الحكومة المؤقتة على تنفيذ الأحكام الدستورية بشكل عادل ومتساوٍ في جميع أنحاء البلاد، وضمان مشاركة جميع الأطراف السياسية في تشكيل المستقبل السوري.
هل نشهد بداية عهد جديد؟
بين الألم الذي خلفته سنوات الحرب، والتحديات التي تفرضها الوقائع السياسية والاقتصادية، تقف سوريا أمام مفترق طرق. المستقبل ليس واضحًا، ولكن المؤكد هو أن تجاوز الأزمة الحالية لن يكون ممكنًا دون تحقيق العدالة الحقيقية، وضمان الحقوق الأساسية لكل السوريين، والسعي نحو مصالحة وطنية شاملة تستند إلى كشف الحقيقة، وإنهاء العنف، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والشعب.
في النهاية، يبقى السؤال: هل ستكون هذه المرحلة نقطة تحول حقيقية، أم مجرد محطة أخرى في دوامة الأزمة المستمرة؟