مع تصاعد الحراك الدبلوماسي حول الملف السوري، تتباين مواقف القوى الغربية بين الإبقاء على العقوبات كأداة ضغط سياسية، وبين الانفتاح المشروط على الإدارة السورية الجديدة، بهدف دعم الاستقرار وإعادة الإعمار. فبينما تشدد فرنسا والاتحاد الأوروبي على ضرورة المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، تتجه كندا إلى مقاربة أكثر مرونة، تعكس مزيجًا من المصالح السياسية والاعتبارات الإنسانية.
فرنسا: لا للعفو عن الانتهاكات
في موقف يعكس حزمًا سياسيًا، أكدت الحكومة الفرنسية رفضها رفع العقوبات عن سوريا ما لم تكن هناك ضمانات بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، لا سيما تلك التي وقعت في الساحل السوري، وشدد وزير الشؤون الفرنكوفونية، ثاني محمد صويلحي، على أن الجرائم ضد المدنيين، بغض النظر عن منفذيها، سواء كانوا من بقايا نظام بشار الأسد أو مجموعات إرهابية، لن تمر دون إدانة.
هذا التشدد يعكس قلق فرنسا من أن يؤدي أي تخفيف للعقوبات إلى تعزيز نفوذ دمشق دون تحقيق إصلاحات سياسية حقيقية، كما أن فرنسا ترى أن الاستقرار في سوريا لا يمكن أن يتحقق دون عملية سياسية شاملة، تضمن حقوق جميع المكونات الدينية والعرقية في البلاد.
رغم ذلك، رحبت باريس بالاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الإدارة السورية الجديدة و"قوات سوريا الديمقراطية"، معتبرة أن هذه الخطوة قد تساهم في بناء سوريا أكثر استقرارًا. ومع ذلك، يبقى موقفها مشروطًا بتحقيق تقدم ملموس على صعيد العدالة الانتقالية والمحاسبة.
الاتحاد الأوروبي: العقوبات كأداة لإعادة الإعمار
من جهته، وافق الاتحاد الأوروبي على قرار يقضي باستخدام الأصول المجمدة لنظام الأسد في تمويل إعادة الإعمار وتعويض الضحايا، هذا القرار، الذي أُقر بأغلبية ساحقة في البرلمان الأوروبي، يعكس مقاربة جديدة، حيث لم يعد الهدف مجرد معاقبة النظام، بل توجيه العقوبات لخدمة إعادة بناء البلاد وفق رؤية أوروبية تضمن عدم استفادة النظام الحالي من أي مساعدات مالية.
كما شدد الاتحاد الأوروبي على ضرورة استمرار المساعدات الإنسانية، مع تخصيص 235 مليون يورو لدعم قطاعات حيوية مثل الطاقة والمياه والصحة والتعليم، لكن اللافت في البيان الأوروبي كان دعوته إلى دعم "القوات الانتقالية" في سوريا، وهو ما يشير إلى رغبة أوروبية في تعزيز بدائل سياسية وعسكرية قادرة على فرض الاستقرار بعيدًا عن النفوذ الروسي والإيراني.
من جهة أخرى، تبنى البرلمان الأوروبي موقفًا أكثر عدائية تجاه دمشق، داعيًا إلى إنهاء الوجود العسكري الروسي في سوريا، ومطالبًا بقطع العلاقات مع موسكو وطهران. كما اعتبر أن استمرار استضافة روسيا لبشار الأسد وعائلته يشكل عائقًا أمام تحقيق العدالة الدولية.
كندا: سياسة أكثر مرونة وانفتاح دبلوماسي
على عكس الموقفين الفرنسي والأوروبي، تبنت كندا سياسة أكثر مرونة تجاه الإدارة السورية الجديدة، حيث أعلنت تعيين سفير غير مقيم لها في سوريا، في خطوة تعكس رغبتها في استعادة قنوات التواصل الدبلوماسي مع دمشق.
وجاء في بيان وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، أن هذه الخطوة تهدف إلى تعزيز التنسيق مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، لدعم السلام والاستقرار في سوريا.
في الوقت ذاته، أعلنت كندا عن تخفيف بعض العقوبات المفروضة على سوريا، خاصة تلك المتعلقة بالتحويلات المالية عبر المصرف المركزي السوري، هذه الخطوة تهدف، وفقًا للحكومة الكندية، إلى تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية ودعم إعادة التنمية المحلية، لكنها تحمل في طياتها أيضًا بعدًا سياسيًا، يتمثل في رغبة كندا في لعب دور أكثر تأثيرًا في مستقبل سوريا.
إضافة إلى ذلك، خصصت كندا 84 مليون دولار كمساعدات إنسانية جديدة، تشمل توفير الغذاء وخدمات الصرف الصحي والرعاية الصحية، كما دعت الحكومة الكندية جميع الأطراف في سوريا إلى العمل على خفض التصعيد، وتجنب الانزلاق نحو مزيد من العنف والتشرذم.
المبعوث الكندي الخاص لسوريا، عمر الغبرة، أشار إلى أن كندا تسعى إلى تمكين السوريين من بناء دولة شاملة تحترم جميع مواطنيها، معتبرًا أن دعم التحول الديمقراطي هو السبيل الوحيد لمنع سوريا من الانزلاق نحو مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.
هل نحن أمام مرحلة جديدة في التعامل مع سوريا؟
تكشف هذه المواقف الدولية المتباينة عن تحولات جذرية في التعاطي مع الملف السوري، فبينما تواصل فرنسا والاتحاد الأوروبي الضغط عبر العقوبات والمطالب السياسية الصارمة، تتبنى كندا نهجًا أكثر انفتاحًا، يعكس رغبة في إيجاد توازن بين العقوبات والدبلوماسية.
لكن السؤال الأهم هو: هل يمكن لهذه السياسات أن تساهم فعلًا في تحقيق الاستقرار في سوريا؟
- مخاطر رفع العقوبات: في حال تم تخفيف العقوبات دون ضمانات حقيقية للإصلاح السياسي، فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز سلطة النظام الحالي، دون تحقيق أي تقدم في مسار العدالة الانتقالية.
- استخدام الأصول المجمدة لإعادة الإعمار: هذه خطوة يمكن أن تشكل ضغطًا على دمشق، لكنها تحتاج إلى آلية صارمة لضمان عدم تسرب الأموال إلى جهات غير مستحقة.
- إعادة الانخراط الدبلوماسي: كما تفعل كندا، قد يكون خيار الانخراط المشروط وسيلة فعالة للتأثير على السياسات الداخلية في سوريا، ولكن ذلك يتطلب شراكة دولية لضمان تحقيق الإصلاحات المطلوبة.
فرصة أم مأزق؟
يبدو أن المجتمع الدولي يقف عند مفترق طرق فيما يتعلق بسوريا، فبين العقوبات والانفتاح المشروط، هناك حاجة إلى استراتيجية متوازنة تجمع بين الضغط والمحفزات، لضمان انتقال سياسي حقيقي، يضمن حقوق جميع السوريين، ويؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية.
في ظل هذه التعقيدات، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية تحقيق هذا التوازن، دون أن تتحول القرارات الدولية إلى مجرد أدوات لتعزيز الوضع الراهن، على حساب تطلعات الشعب السوري.