تضمنت مخرجات البيان الختامي لمؤتمر "الحوار الوطني السوري" الذي انعقد في 25 شباط 2025، 18 بندًا تمثل خطوة أساسية نحو بناء الدولة السورية الجديدة، دولة الحرية والعدل والقانون. وكان من أبرز ما ورد في البيان البند الـ12، الذي تحدث عن التنمية السياسية وعرف مصطلح "العزل السياسي" باعتباره أحد الإجراءات الأساسية للمرحلة الانتقالية، خاصة في سياق الانتقال إلى دولة ذات مؤسسات ديمقراطية.
العزل السياسي هو إجراء قانوني أو سياسي يتم بموجبه استبعاد أفراد أو جماعات من المشاركة في الحياة السياسية، يشمل هذا الاستبعاد الحق في الترشح للمناصب العامة، تولي الوظائف الحكومية، أو ممارسة حقوقهم السياسية بسبب تورطهم في جرائم سياسية، فساد، انتهاكات قانونية، أو ممارسات استبدادية مرتبطة بأنظمة حكم سابقة.
يهدف العزل السياسي إلى تطهير المؤسسات من الأشخاص الذين دعموا النظام الاستبدادي وأعماله، بما في ذلك تجريد هؤلاء الأشخاص من الشرعية السياسية ومنعهم من التأثير في العملية السياسية الوطنية. يظل هذا الإجراء ذا أهمية خاصة في فترات العدالة الانتقالية، التي تتبع الأزمات أو الثورات لتطهير النظام السياسي وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة.
العزل السياسي في السياق السوري
في الحالة السورية، يتمثل العزل السياسي في استبعاد الشخصيات التي دعمت نظام الأسد المخلوع بشكل علني، سواء كان ذلك عبر تأييدهم المباشر للحرب ضد الشعب السوري، أو عبر تبرير انتهاكات النظام، سواء في وسائل الإعلام أو على المنابر السياسية. يشمل هذا العزل الشخصيات التي شغلت مناصب رسمية في الدولة السورية مثل أعضاء مجلس الشعب، الإعلاميين الذين عملوا على شرعنة النظام، وكذلك قادة الفروع الحزبية الذين كانوا جزءًا من آلة النظام السياسية.
وفقًا للباحث بدر ملا رشيد، الذي شارك في المؤتمر، فإن هذا العزل لا يعني حرمان هؤلاء الأفراد من حقوقهم المدنية كحق التملك أو ممارسة الأعمال الخاصة، ولكنه يشمل منعهم من الترشح أو التصويت في الانتخابات أو الانخراط في النشاطات السياسية مستقبلًا. ومن المهم أن يترافق هذا العزل مع إعادة تفعيل القضاء السوري لتطبيقه بشكل عادل وشفاف.
العزل السياسي كجزء من العدالة الانتقالية
يرتبط العزل السياسي ارتباطًا وثيقًا بالعدالة الانتقالية التي تهدف إلى معالجة آثار الأنظمة الاستبدادية وتعزيز المصالحة الوطنية، في الحالة السورية، يعد العزل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة الانتقالية. فهو يساعد في التخلص من رموز النظام السابق الذين قد يعرقلون بناء مستقبل سياسي جديد.
يشير بدر ملا رشيد إلى أن هذا الإجراء يعزز العدالة عبر منع الشخصيات التي ساهمت في "شرعنة" النظام من العودة للمشاركة في العملية السياسية، مما يساهم في تهدئة التوترات المجتمعية ويخفف من قلق الضحايا، مثل أهالي المعتقلين والمفقودين، من عودة نفس الشخصيات التي كانت تدافع عن سياسات النظام.
لكن العزل السياسي ليس بديلاً عن المحاسبة القانونية، فبناءً على السياق السوري، العزل يشمل الأفراد الذين لم يشاركوا في القتال المباشر أو تنفيذ الأوامر العسكرية، بل أولئك الذين كانوا جزءًا من الإدارة السياسية للنظام، مثل قادة الفروع الحزبية، الإعلاميين، وأعضاء مجلس الشعب. ولكن، إذا ثبت تورط هؤلاء في جرائم أخرى، فإنهم يخضعون للمحاسبة عبر القنوات القضائية.
العزل السياسي بين الأداة والإقصاء
تُظهر التجارب الدولية في تطبيق العزل السياسي في سياقات مماثلة حالات من الجدل حول مدى تحقيق هذا الإجراء للعدالة أو تحوله إلى أداة إقصاء سياسي. ففي مصر، على سبيل المثال، تم إصدار قانون العزل السياسي في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، واستهدف كبار المسؤولين في نظام حسني مبارك، إلا أن المحكمة الدستورية قضت بعدم دستوريته، ما جعل العزل السياسي أداة أكثر للصراع السياسي منه لتحقيق العدالة. وفي ليبيا، تم إصدار قانون العزل السياسي في 2013، والذي استهدف المسؤولين الذين عملوا مع نظام معمر القذافي. إلا أن هذا القانون تم إلغاؤه في 2015 بعد أن اُستخدم كأداة سياسية ضد خصوم سياسيين، مما أثار شكوكًا حول مدى نزاهته وفعاليته في تحقيق العدالة. وفي السودان، حيث تمت الإطاحة بنظام البشير في 2019، تم تطبيق العزل السياسي كجزء من جهود تفكيك النظام السابق. لكن، كما في حالات أخرى، هذا الإجراء قوبل بالانتقادات بسبب احتمالية استخدامه لأغراض سياسية وإقصائية.
العزل السياسي في سوريا: التحديات والفرص
تواجه سوريا تحديات كبيرة في تطبيق العزل السياسي بشكل فعال، سواء من حيث ضمان العدالة أو من حيث تنفيذ القرار بشكل عملي. فبالإضافة إلى ضرورة وجود محاكمات عادلة وشفافة، يحتاج العزل السياسي إلى إقرار أطر قانونية واضحة تحدد معايير الاستبعاد بشكل دقيق وعادل. كما يجب أن يترافق العزل مع إجراءات قانونية لضمان حقوق المشاركة السياسية للمواطنين الذين لم يكونوا جزءًا من النظام السابق ولم يتورطوا في جرائمه.
العزل السياسي يمكن أن يكون خطوة أساسية نحو بناء مؤسسات سياسية جديدة ذات شفافية ونزاهة، ولكن لا بد من أن يتم في سياق شامل يشمل محاسبة فعلية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات، وإلا فقد يتحول إلى أداة للإقصاء السياسي بدلًا من أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة الانتقالية.
في الختام، يطرح العزل السياسي في السياق السوري تساؤلات جوهرية حول مدى فعاليته في تحقيق العدالة الانتقالية، ومدى تأثيره على استقرار الدولة بعد التغيير السياسي. فمن ناحية، يمكن اعتباره ضرورة لتطهير مؤسسات الدولة من الشخصيات التي ساهمت في شرعنة الاستبداد والانتهاكات، ومنعهم من إعادة إنتاج النظام السابق أو عرقلتهم لعملية الانتقال الديمقراطي. كما أنه قد يبعث برسالة واضحة إلى الضحايا بأن العدالة تُطبق وأن هناك مساءلة حقيقية عن الحقبة الماضية. لكن في المقابل، هناك مخاوف من أن يتحول العزل السياسي إلى أداة للإقصاء السياسي، خاصة إذا لم تكن هناك معايير واضحة وعادلة تحدد من يستحق العزل ومن لا يستحقه. فالتجارب الدولية، كما في مصر وليبيا، أظهرت أن تطبيق العزل بشكل غير متوازن قد يؤدي إلى مزيد من الانقسامات السياسية والاجتماعية، ويعزز الشعور بالظلم لدى بعض الفئات، مما قد يعرقل المصالحة الوطنية ويؤدي إلى اضطرابات سياسية جديدة. كما أن فعالية العزل السياسي تعتمد بشكل كبير على وجود مؤسسات قضائية مستقلة قادرة على تطبيقه بشكل عادل، دون أن يكون وسيلة لتصفية الحسابات السياسية. فبدون قضاء مستقل وشفاف، قد يتحول العزل إلى سلاح بيد أطراف معينة لإبعاد خصومها السياسيين، مما يقوض العملية الديمقراطية بدلاً من تعزيزها.
لذلك، يبقى التحدي في سوريا هو إيجاد توازن بين العزل السياسي كإجراء انتقالي ضروري لضمان عدم عودة رموز النظام السابق، وبين ضمان عدم تحوله إلى أداة إقصاء قد تؤدي إلى مزيد من الاستقطاب والانقسام. وهذا يتطلب تبني نهج قائم على المعايير القانونية الصارمة، والشفافية، وإشراك جميع القوى الوطنية لضمان تحقيق العدالة دون انتقام أو انتقائية.