شهد لبنان في عام 2024 سلسلة من الأحداث الدرامية والتطورات التي لا تزال تلقي بظلالها على الوضع الداخلي والإقليمي، هذه الأحداث تُنذر بإعادة رسم خطوط التماس في صراعات المنطقة، وسط نيران الحروب المفتوحة، الاغتيالات المفاجئة، وأزمة سياسية مستفحلة تؤثر على الاستقرار الداخلي، فلبنان في هذا العام كان ساحة لمعارك واصطفافات إقليمية معقدة، وهو في قلب صراع مستمر بين القوى الكبرى في المنطقة.
العدوان الإسرائيلي على لبنان: تصعيد غير مسبوق
بدأت الأحداث التي شكلت نقطة تحول في عام 2024 بعد عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها "كتائب القســ.ـام" التابعة لحركة حمـ.ـاس في 7 أكتوبر 2023. مباشرة بعد تلك العملية، رد حـ.ـزب الله اللبناني بما عرف في إطار نظرية "وحدة الساحات" وبالتضامن مع حلفائه، بشن حرب إسناد ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ورد جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف مناطق جنوب لبنان، وشن غارات جوية وعمليات استخباراتية تستهدف قيادات حـ.ـزب الله،و في الأيام التالية، تعرض حـ.ـزب الله لعدة ضربات موجعة، من بينها اغتيال العديد من قادته العسكريين، وكانت أبرز العمليات استهداف أجهزة الاتصال المستخدمة من قبل الحزب، مما أسفر عن استشهاد 37 من أفراده وإصابة المئات.
في 23 سبتمبر، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي هجومًا جويًا مكثفًا على لبنان، استهدف فيه العديد من المواقع العسكرية. كما شهد لبنان سلسلة من العمليات المدمرة في مختلف المناطق الجنوبية والشرقية. الأكثر تأثيرًا كان الهجوم الذي شنته "إسرائيل" في 27 سبتمبر والذي أدى إلى اغتيال أمين عام حـ.ـزب الله السيد حـ.ـسن نصـ.ـر الله في غارة جوية عنيفة على مقر قيادة الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت. العملية التي أطلق عليها الإسرائيليون اسم "ترتيب جديد" عُدت من وجهة نظرهم نقطة تحول تاريخية، ودفعت حـ.ـزب الله إلى إعادة تنظيم صفوفه في ظل تزايد الضغوط العسكرية الإسرائيلية.
"إسرائيل" تجتاح الجنوب اللبناني
في تطور غير مسبوق، أعلنت "إسرائيل" في الأول من أكتوبر 2024، أن قواتها عبرت الحدود إلى جنوب لبنان بعد مواجهات عنيفة، وقامت بتدمير العديد من المباني والبنية التحتية في المنطقة، وأسفرت الهجمات التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي عن استشهاد 4047 شخصًا وإصابة 16593 آخرين، من بينهم 45 جنديًا لبنانيًا، كما أفادت الأمم المتحدة بنزوح نحو مليون و400 ألف لبناني بسبب الهجمات العنيفة، وخلفت هذه العمليات أضرارًا مادية تقدر بحوالي 8.5 مليار دولار أمريكي، شملت تدمير 100 ألف وحدة سكنية جزئيًا أو كليًا، بالإضافة إلى تدمير العديد من المحاصيل الزراعية ومرافق الدولة الحيوية.
اتفاق وقف إطلاق النار: أمل في الهدوء أم بداية التوترات الجديدة؟
في 27 نوفمبر 2024، تم الإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين الحكومة اللبنانية و"إسرائيل"، الاتفاق الذي يحظى بموافقة جميع الأطراف الكبرى، بما فيها الحزب، ينص على وقف القتال لمدة شهرين، مع وضع ترتيبات تنفيذية لقرار الأمم المتحدة رقم 1701، الذي ينص على انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان وانتشار الجيش اللبناني هناك، كما يتضمن الاتفاق آلية إشراف دولية تشمل الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة.
ومع اقتراب الشهر الثاني من الاتفاق، تعالت الأصوات المشككة في استدامته، خاصة مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية التي شهدها لبنان بين 27 نوفمبر و22 ديسمبر 2024، حيث سجلت وزارة الخارجية اللبنانية أكثر من 816 انتهاكًا بريًا وجويًاـ وسط تحذيرات للبناحثين والمحللين العسكريين من أن "إسرائيل" قد تستغل هذه الفترة لتثبيت مواقعها في المنطقة، مما يزيد من احتمالية تجدد القتال في المستقبل.
الاقتصاد اللبناني في مواجهة الأزمات: انهيار وتحديات صعبة
اقتصاديًا، ظل لبنان يعاني من تداعيات الأزمات المستمرة، مع تفاقم الأوضاع بشكل ملحوظ في 2024. يواصل الاقتصاد اللبناني تدهوره منذ الأزمة المالية التي بدأت في 2019، والتي أثرت بشكل كبير على سعر صرف الليرة اللبنانية. في ظل تفاقم الأزمة السياسية، بات الوضع الاقتصادي أكثر تعقيدًا، حيث سجلت الليرة اللبنانية انخفاضًا كبيرًا أمام الدولار الأمريكي، مما أدى إلى تفشي معدلات التضخم في كافة القطاعات.
تسبب النزاع العسكري المستمر والهجمات الإسرائيلية المتكررة في تدمير البنية التحتية الحيوية في لبنان، بما في ذلك الطرق، الجسور، والمرافق العامة، وتعرض قطاع التجارة والخدمات الاقتصادية لخسائر فادحة، حيث قدرت الخسائر في هذا القطاع بحوالي ملياري دولار أمريكي، بينما عانى القطاع الزراعي من تدمير المحاصيل وتوقف الأعمال الزراعية بسبب النزوح والدمار الذي خلفته الحرب، حيث أدى هذا التدمير إلى تضخم الأضرار في القطاع الزراعي ليبلغ نحو 1.2 مليار دولار أمريكي.
على الرغم من جهود المجتمع الدولي لتقديم المساعدات الإنسانية، إلا أن تأثير الحرب على الاقتصاد اللبناني كان بالغًا، خاصة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي أصبحت أكثر عرضة للتدهور المعيشي، وألقت هذه الظروف بظلالها على الوضع المالي للبنان، الذي يعاني من زيادة في مستويات الفقر والبطالة، في وقت كانت الحكومة اللبنانية تحاول جاهدة التعامل مع أزمات السيولة، التدهور في الخدمات الأساسية، وارتفاع الدين العام.
الانتخابات الرئاسية والأزمة السياسية الداخلية
على الصعيد السياسي، بقي لبنان في عام 2024 في دائرة الأزمة الداخلية بسبب الشغور المستمر في منصب رئيس الجمهورية، وبدأ هذا الشغور مع نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022، ولم تتمكن القوى السياسية اللبنانية من الاتفاق على انتخاب خلف له، ما أدى إلى فشل البرلمان في 12 جلسة انتخابية، ومع مرور أكثر من عامين، لم تتمكن الأطراف السياسية من التوصل إلى توافق حول شخصية الرئيس المقبل.
رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري أعلن عن تحديد موعد جديد لانتخاب رئيس الجمهورية في 9 يناير 2025، على أمل أن تنجح الأطراف السياسية في تجاوز خلافاتها وتحديد هوية الرئيس الجديد في ظل الضغوط الدولية والإقليمية.
التحديات المستمرة في ظل انعدام الاستقرار
لبنان يواجه تحديات متزايدة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في ظل بيئة إقليمية ملتهبة لا تبشر بالاستقرار، فالقوى السياسية والطائفية في لبنان، في سياق نظام المحاصصة الطائفية، فشلت مرارًا في توحيد صفوفها أو إقرار إصلاحات حقيقية، مما يجعل أي تقدم في العملية السياسية أمرًا صعبًا للغاية.
خاتمة: أفق غامض في المستقبل
مع دخول لبنان عام 2025، يبقى مصير البلاد غامضًا في ظل الأزمات العميقة التي يعاني منها، في وقت يتمسك فيه الشعب اللبناني بالأمل في الخروج من النفق المظلم، لا يزال الأمن السياسي والاقتصادي هشًا، مما يعكس صعوبة الوضع في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي يتعين على لبنان مواجهتها في المستقبل القريب.