آخر من يتكلّم عن جرائم الحرب والإبادة هم الأمريكيّون، وآخر من يليق بهم التبجّح بالأخلاق والسلام هم الأمريكيّون، فلا زالت جرائهم التي ارتُكبت في العراق تتكّشف بشكل متوالٍ، وتتكشّف معها حقيقة هذا الوحش الحضاري الكبير، الذي ألقى القنابل النووية على المدن، وأحرق الأرياف بمن فيها بالنابالم، وجعل الحياة في أفغانستان جحيماً على النّاس، وحصد أرواح أكثر من مليون عراقي بريء.
نشرت مجلة "نيويوركر" في 16 سبتمبر الماضي 2024، صوراً فظيعة لمدنين أبرياء من النساء والأطفال والرجال الذين قتلوا داخل بيوتهم، بعنوان يقول: "صور جديدة لمذبحة (الحديثة)، التي لا يريد الجيش الأمريكي أن يراها العالم".
التقط الصور جندي يعمل في الاستخبارات العسكريّة، وصل إلى المكان مع جنود آخرين من مشاة البحريّة. كان قائد سلاح مشاة البحرية الأمريكية وقت المجزرة الجنرال مايكل هاجي قد تباهى في عام 2014 بوجود صور سريّة للضحايا، مشيراً إلى أن "الصحافة لم تحصل على هذه الصور، ولم يتم رؤية هذه الصور حتى اليوم لذا، أنا فخور جدا بذلك".
بدأت هذه المذبحة صبيحة 19 نوفمبر 2005، حين انفجرت عبوة ناسفة بعربة أمريكيّة مدرعة كانت في دوريّة تتكون من أربع عربات "همفي" قرب مدينة حديثة الواقعة بمحافظة الأنبار. الانفجار تسبب في مقتل سائق العربة العريف لانس ميغيل تيرازاس، وإصابة اثنين آخرين من مشاة البحريّة الأمريكيّة. في أعقاب الانفجار أقام جنود مشاة البحريّة الأمريكيّة نقطة تفتيش عند مدخل مدينة حديثة، وأوقفوا سيارات العراقيين المارّين صدفة بالمكان وقاموا بقتلهم على الفور.
لم يكتف الجنود الأمريكيون بذلك، بل قاموا باقتحام ثلاثة منازل قريبة، وقتلوا في أحد المنازل 7 مدنيين، و8 آخرين في منزل آخر، و4 في المنزل الثالث. جميع القتلى كانوا عُزّلاً ولم تبدر منهم أيّ مقاومة. أصغر القتلى كان عمره ثلاث سنوات والأكبر سنا 76 عاما. فعل الجنود ذلك وادعوا أنّهم اشتبكوا مع مسلحين عراقيين، وقتلوا عدداً منهم.
ادّعت قيادة مشاة البحرية الأمريكية كذباً في ملخص موجز في اليوم التالي: "بالأمس قتل جندي من مشاة البحرية الأمريكية و15 مدنيا عراقيا في انفجار لغم أرضي على الطريق في حديثة. بعد الانفجار، هاجم المسلحون الرتل. في المقابل، قتل الجنود العراقيون ومشاة البحرية الأمريكية ثمانية مسلحين وجرحوا آخر!".
وبحسب الصحيفة، فقد قام صحفي عراقي في اليوم التالي بتصوير ضحايا المجزرة بالفيديو في منازلهم، وزود مجلّة تايم بعد شهرين بأدلّة تؤكّد أنّ العراقيين المدنيين لم يُقتلوا في تبادل لإطلاق النّار، بل أطلق عليهم مشاة البحرية الأمريكية النّار، وهم في بيوتهم. المجلة تحدثت عن المجزرة في مارس 2006 كما زوّدت الجيش الأمريكي بنسخة من الفيديو.
بعدما انتشرت الفضيحة، وحين لم يعد إنكار الجيش الأمريكي وتعتيمه على المذبحة مجدياً، اتُهم ثمانية جنود أمريكيين في 21 ديسمبر 2006 بالقتل غير المتعمد، وجرائم أخرى خفيفة، وسرعان ما تمّ إسقاط التهم ضد ستة من هؤلاء، كما لم تتم معاقبة أعلاهم رتبة وهو المقدم في سلاح مشاة البحرية جيفري تشيساني.
الوحيد المتبقي كان الرقيب فرانك ووتريش، وكان من أصدر الأمر باقتحام منازل المدنيين العراقيين مطالبا "بإطلاق النار أولاً، ثم طرح الأسئلة"!
في عام 2012 بعد مرور ست سنوات، اعترف الرقيب بذنبه، وأُدين ليس بالقتل العمد للمدنيين العزل، بل بالإهمال في واجبه العسكري، وكان الحكم، خفض رتبته وراتبه، ولم يسجن أحد.
لم تكن المجزرة في مدينة حديثة العراقية في 19 نوفمبر 2005 هي الوحيدة من نوعها، بل كان غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة في عام 2003 برمّته جريمة في سلسلة طويلة من المذابح والقتل والتعذيب في السجون والمعتقلات، جرائم توالت من دون رادع، والعدالة بقيت نائمة تماماً، وربّما يكشف لنا المستقبل عن المزيد من تلك الفظائع التي ارتكبها الأمريكيون في العراق إبّان غزوه.