بالنسبة لدول الشرق الأوسط، يُنظر إلى ظهور الصين كقوة كبرى خارج المنطقة على أنه تطور إيجابي إلى حد كبير. والصين عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وجيشها سريع النمو، وتطمح إلى أن تصبح قوة عالمية. وليس هناك شك في أن القادة الصينيين سيواصلون استراتيجية "الإسفين" في محاولة لتوسيع قوتهم في الشرق الأوسط ولعب دور أكبر في المنطقة.
ملخّص نظريّة التحوّط في العلاقات الدوليّة هي أن تسعى الدولة إلى مصالحها من غير استعداء للدول الكبرى، وهذه السياسة كانت متّبعة من قبل الصين حتّى بداية الربيع العربي، ثمّ بدأت الحكومة الصينيّة ببلورتها عن طريق العديد من المواقف التصاعديّة بناءً على جسّ نبض الولايات المتحدة.
غير أنّ سياسة الإسفين الحاليّة لا بدّ لها أن تهدد اقتصاد الصين، وخاصّة إذا تصاعدت الصراعات الحالية إلى حروب إقليميّة أوسع نطاقاً، كما أن نهج بكين يعرّض للخطر النفوذ الذي تحاول اكتسابه في الشرق الأوسط بعض أهم شركاء الصين في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وتبحث حكومات المنطقة عن بدائل في عالم متعدد الأقطاب، وتشكل الصين، في ظل هذا الثقل الاقتصادي، خياراً جذاباً للغاية تبعاً للعديد من العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع قيمة الصين:
أولاً، هناك تصور بأن بكين لا تنتقد الحكومات والمجتمعات المحلية بشأن القضايا الاجتماعية والسياسية المحلية، في حين تحاول الديمقراطيات الغربية الظهور بمظهر حارس حقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، والمجتمع المدني، وحرية الإعلام.
ثانياً، إنّ التجارة مع الصين سهلة ورخيصة، مع سرعة إنجاز ملحوظة تجعل الشراكة معها حافزاً استراتيجيّاً للدول النامية.
ثالثاً، إنّ ازدهار البنية التحتية لديها عامل مساعد كبير، فالشركات الصينيّة باتت ذات سيرة حافلة بالمنجزات على الصعيد الداخلي والدولي.
في جوهر الأمر، انتقلت الصين من التحوط إلى الإسفين. استراتيجية الإسفين هي "محاولة من جانب الدولة لمنع أو تفكيك أو إضعاف تحالف يهدد أو يعيق بتكلفة مقبولة".
ونظهر سمات الانخراط الاستراتيجي الجديدة للسياسة الصينيّة من خلال تحدّي الهيمنة الأمريكيّة في المنطقة والذي تبدّى جليّاً لأوّل مرة منذ السبعينات من خلال ما يلي:
1- إسقاط أغلب قرارات مجلس الأمن ضدّ الحكومة السوريّة خلال الحملة الدوليّة لإسقاطها بالمشاركة مع روسيا.
2- إعلان الشراكة الاستراتيجيّة مع إيران عدو الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
3- في مارس 2024، رعت الولايات المتحدة قرارًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الصراع في غزة، ويسعى مشروع القرار إلى "وقف فوري ودائم لإطلاق النار" بين إسرائيل وحماس، وهو الأمر الذي ظل الدبلوماسيون الصينيون يطالبون به بصوت عالٍ عملياً منذ بدأت الأعمال العدائية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولكن القرار المقترح لم يكن جيّداً بالقدر الكافي بالنسبة للصين التي اعترضت عليه، لا بل استخدمت بكين القرار كفرصة أخرى لمهاجمة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وانتقد تشانغ جون، الممثل الدائم لجمهورية الصين الشعبية لدى الأمم المتحدة آنذاك، والذي قال إنه يتحدث باسم المجتمع الدولي، الولايات المتحدة لأنها لعبت "لعبة الكلمات" ووصف قرارها بأنه "لا يختلف عن إعطاء" ضوء أخضر لاستمرار عمليات القتل.
4- تعمل بكين على تشجيع المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة، حماس وفتح. وفي يوليو/تموز، استضاف وانغ يي اجتماعاً لممثلي الفصيلين وآخرين، الذين وقعوا على اتفاق يسمى "إعلان بكين" وتعهدوا بتشكيل حكومة موحدة.
5- وأخيراً علينا ألا ننسى دور الصين الكبير في تقويض السيطرة الأمريكيّة على الاقتصاد العالمي سواءً بتشكيلها لمجموعة البريكس، أو منظمة شنغهاي للتعاون.
إذاً هناك تحوّل كبير في السياسة الصينيّة التي باتت مؤثّرة إلى حد كبير في منطقة نفوذ للولايات المتحدة، وهذا سيلقي بظلاله على العلاقات الأمريكيّة الصينية المتوترة أصلاً، وإنّ هذا الإقدام الصيني يبدو محسوباً، وليس اعتباطيّاً في ظل تراجع الرّدع الأمريكي الواضح أمام العديد من المنظّمات المسلّحة في المنطقة، والتي تسعى بكين أيضاً إلى احتوائها ضمن سياستها الجديدة.