الوشم عند نساء الشرقية.. إرث لا مادي تناقلته النسوة عبر أجسادهن

محمود عبد اللطيف

2020.11.09 - 02:25
Facebook Share
طباعة

 

يمكن اعتبار "الوشم" جزءً من التراث اللامادي للمنطقة الشرقية والبادية من سورية، وهو تراث تتقاسمه القبائل العربية والبدوية وبعض القبائل الكردية، وبالرغم من أنه كان جزءاً من بحث المرأة عن الجمال، إلا أن بعض القبائل البدوية كانت توشم الفتيات برسم موحد يجمع بينهن، كنوع من الدلالة عليهن، ويمكن للفتاة في مثل هذه الحالة أن تشم رسوماً إضافية لتزيد من جمالها
"الوشامة".. من هي..؟
في القرى الواقعة ضمن حوض الفرات والجزيرة السورية، كانت مهنة "الوشم"، تنحصر بنساء من قبائل الغجر التي تعرف شعبياً باسم "النور"، أو "القرباط"، وعادةً ما تطوف "الوشامات" بين القرى وتجمعات البدو في فترة الربيع، ولم يكن الأجر مادياً على تقديم خدماتهن للنساء، بل كن يتقاضين مواد عينية كالسمن العربي وبقية مشتقات الحليب، أو جلود المواشي، وغالباً ما يتم إكرامهن بأجرٍ عالٍ إذا كانت النتيجة مرضية.
تقول السيدة "عائشة الجمعة"، المتحدرة من قرية "السفافنة"، الواقعة بمحيط بلدة "باغوز فوقاني"، بريف دير الزور الجنوبي الشرقي، بأن "الوشّامات" اللواتي يعرفن شعبياً باسم "الدكاكات" (من الدق باستبدال حرف القاف بالكاف في اللفظ)، كن يأتين إلى قريتها على شكل مجموعات، وغالباً ما يكنّ من عائلة واحدة ( أم وبناتها)، وخلال طوافهن في القرية يقمن بممارسة مهنة "الحف"، للنساء، (وهي مهنة معنية بإزالة الشعر من الوجه باستخدام الخيط ومادة مرطبة مصنوعة من عدة أعشاب طبيعية)، كما يقمن بوشم الفتيات الصغيرات اللواتي تجاوزن سن الست سنوات، إلا أن هذه العادة اختفت بشكل مفاجئ في السبعينات ودون أن يكون ثمة مقدمات لذلك، إلا أن غياب "الوشّامات"، لم ينهي العمل بعادة "الوشم"، إذ استمرت النساء بالرسم على أجسادهن بتعلم ذاتي.
لم تكن "الوشّامة"، تستخدم أي مادة لتخدير "الزبونة"، وكنّ يعتمدن على "أبر الخياطة"، ومواد صبغية طبيعية لرسم الأشكال المتعددة في مناطق متفرقة من الجسم، وحساسية بعض المناطق من الجسم كتحت الأجفان أو بين الحاجبين والدقن كانت تتطلب دقة عالية في استخدام "الإبرة"، التي تغرز في الجلد بسرعة ولمرات متتالية حتى يظهر الدم، وتصف السيدة "عائشة" ذلك في حديثها لآسيا بالقول: "كانت الوشّامة ترسم الذي ستقوم بوشمه بقلم الكحل أو قلم عادي، ثم تبدأ بوضع المادة التي ستستخدمها لرسم الوشم على ذات الخطوط، لتبدأ بعد ذلك بغرز الإبرة بسرعة في الأماكن المصبوغة، وهذا ما يدفع بالصباغ إلى داخل الجلد، وبعد عدة أيام يشفى الجرح الناتج عن الإبرة ليبقى مكانه الوشم ظاهرا".
لم يكن ثمة طريقة لتعقيم الأبر من قبل "الوشّامات"، سوى كي طرفها الواخز بالنار، وكن يستخدمن أصباغاً مصنوعة من مزج "الكحل والحليب"، لتعطي اللون الأخضر للوشم، و "مسحوق الفحم مع الزبدة"، لتلوين الوشم بالأسود، وغالباً ما يكون لدى "الوشّامة"، أبراً من سبع قياسات مختلفة تستخدم كل منها لوشم منطقة من الجسد، فما يتم وشم الوجه به يكون صغيرا ودقيقا، بعكس ما يستخدم لوشم اليد أو الساق أو البطن.
ماذا توشم النساء..
يعرف الوشم شعبياً باسم "الدق"، ويضاف لخواصه عند قبائل البدو أنه يكون علامة فارقة لنساء القبيلة عن غيرهن، ويوضح "حسين المصطفى"، الأمر في حديثه لآسيا بقوله: "ما سمعناه من جدتنا بأن عادة الغزو التي كانت سائدة بين قبائل البدو، كانت واحدة من الأسباب لجعل الوشم علامة تميز نساء القبيلة عن الأخريات، كما إن خشية ضياع الفتاة او اختطافها من قبل قطاع الطرق كانت سبباً لجعل الوشم الموحد لفتيات القبيلة علامة تسهل التعرف على ذوي الفتاة الضائعة او المخطوفة".
عادةً ما يطلق مسميات دلالية على نوع الوشم المراد رسمه من قبل ذوي الفتاة، إذ أن والدة الفتاة هي من تحدد الوشم الذي سيزيد من جمال ابنتها التي لا تمتلك القدرة او الحق في الاختيار لصغر سنها، ويسمى الوشم الذي يقع تحت الشفة السفلى منتصف الفم ب "الرثمة"، فيما يسمى الوشم تحت الشفة السفلى من الجهة اليمنى "الدبيب"، في حين أن الوشم الذي يمتد من أسفل منتصف الفم وحتى أول الدقن فيسمى "السيالة".
ويسمى الوشم تحت الجفن بـ "كحل القطا"، وعلى الخد يتم وشم "هلال ونقطة"، في حين أن الوشم ما بين الحاجبين يسمى بـ "هلال"، والدوائر على الخد تعرف باسم "الردعة"، أما تطريز اليد بوشم عريض مؤلف من مجموعة نقوش، أو خطوط نقوش طولانية متوزاية، فيسمى بـ "وسادة ابن العم"، وهو اسم يطلق ايضا على الوشم المطرز للبطن، ومرجع هذا الاسم أن النساء يهيئن وسادة من أجسادهن لزوج المستقبل، وفي حين أن النساء كنا ينقشن أساور على المعصم، فإن النقوش حول الساق كانت تسمى "الحجول"، ويمكن النقش على مناطق أخرى تضيف جمالية لجسد المرأة كالعنق والصدر، ونادراً على النهدين.
تستخدم بعض القبائل الكردية المنتشرة في شمال سورية والعراق، حبراً خاصاً للوشم يدخل في تركيبه "حليب الأم"، بدلا من حليب المواشي، كما كانت تستخدم مفرزات "مرارة الحيوان"، وغالبا ما كانت نساء القبيلة الواحدة تستخدم نقشاً موحداً لوشومهن، وهي رسومات ذات أبعاد "ميثيولوجية"، ترتبط بالحضارات القديمة التي كانت في المنطقة، ومن هذه الرموز "الصليب الآري السومري"، وهو صليب معقوف تتوسطه الشمس و يدور باتجاه عقارب الساعة، كما يستخدم "الصليب المتساوي الأضلاع"، في وشوم النساء الكرديات، ويدل في تاريخ الحضارات القديمة على الاتجاهات الأربعة لكوكب الأرض، وعلى عناصر الكون الأربعة (التراب و الهواء و النار و الماء)، كما تستخدم نقوش الشمس و أفعى "شيخ مند".
يرتبط الوشم بعدد من الأمثال والتشابيه الشعبية، فالمرأة التي تعتني بجمال ابنتها فيما لا يخص الوشم، توصف بالقول "دكاكة وتدك لبنتها"، أي إن الوشامة ستعتني بوشم ابنتها أكثر من غيرها، كما توصف المرأة المتقنة لأعمالها والمهتمة بالتفاصيل بالقول الشعبي "دكها مثل حروف القرآن وأبرتها قلم السلطان"، وهذا التشبيه يرد ذكره في المناطق القريبة من الحدود مع العراق، وفي العراق نفسه، كما يذكر الوشم في الأغاني التراثية التي تقول : " درب الهوى و أندلو ما أريدچ تعلمین، یا یمدكدكا الحنچ ع الشمال و ع اليمين"، كما تذكر في أغنية لـ "ناظم الغزالي"، بقول "شامة ودكة بالحنج لو تنباع بروحي اشتريها".
بين الجغرافية.. والتاريخ
ينتشر الوشم في معظم الدول العربية، فقبائل العراق  والجزيرة العربية والأمازيغ تستخدمه للأسباب الدارجة في سورية نفسها، إلا أن الوشم يرتبط تاريخياً بجملة من المعتقدات الطبية والماورائية، فالوشم عند بعض القبائل القديمة من شأنه أن يقي من "السحر".
ترجع بعض مصادر التاريخ ظهور الوشم للمرة الأولى إلى الحضارة الفرعونية، وتجمع المقالات والأبحاث المنشورة في هذا الصدد على أن الفراعنة استخدموه للوقاية من الأرواح الشريرة بوشم الجسد ب "عين حورتس"، و"زهرة اللوتس"، للوقاية من الأمراض الجنسية وأثناء الولادة عند المرأة، ولتمييز الراقصات بوشمهن برمز الآلهة "حتحور"، التي كانت ربة للرقص والموسيقا، كما كانت تستخدم الوشوم بأشكال الحيوانات ورموز الآلهة القوية على منطقة "الزند"، أو "الساعد" عند الرجال تكنياً بقوتهم، وهو تقليد وصل إلى شعوب المنطقة قاطبةً بما في ذلك القبائل العربية والبدو في سورية، إذ يدرج وشم وجوه للحيوانات الكاسرة أو الطيور الجارحة أو السيوف على منطقة "الزند"، عند الرجال.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 3