الدولة السورية و مكافأة تضحيات الشعب بالأزمات!

كتب أمجد أميرلاي - وكالة أنباء آسيا

2020.09.16 - 12:58
Facebook Share
طباعة

يجترّ الإعلام السوري منذ عقود أساليبه نفسها في التعامل مع الأزمات التي يعاني منها الشعب السوري، وهو في ذلك يعتمد أسلوبين لا ثالث لهما، يتكرران مع كل أزمة تواجهها البلاد والعباد؛ الخداع وطمس الرأس في الرمال.

لو خرج رئيس الحكومة أو أي مسؤول له وزن وصارح الناس قائلا:
"نحن مفلسون وحلفاؤنا الروس يشترطون التنازل لتركيا وللأكراد وللأخوان المسلمين حتى يفكوا عنا حصارهم المساعد لحصار الأمريكيين فسامحونا"، ألم يكن شعب سوريا
المضحي احترم دولته وتقبل الأزمات بعنفوان؟
إذا قال رئيس حكومة أو مسؤول للناس "أيها الشعب: مداخيلنا صفر، وايران مفلسة مثلنا ولم تستطع إعانتنا ولا الصين فعلت، ولدينا خطة على قدر إمكانياتنا، ألم يكن شعبنا ليقف مع دولته وهو فخور؟
لكنه اسلوب دفن الرأس في الرمال، وقمع المنتقدين.

ويعج تاريخ السوريين الحديث بالأمثلة حول كلا الأسلوبين اللذين باتا "علامة مسجلة" للإعلام السوري الحكومي، وبعض الإعلام "الخاص" الذي ينافس شقيقه الأكبر ويتفوق عليه أحياناً في الإساءة إلى عقول السوريين!.

الجميع يذكر كيف تم لي ذراع الحقيقة عندما خرج بعض السوريين في حي الميدان الدمشقي عام ٢٠١١ في مظاهرة احتجاج، ليعلن التلفزيون السوري بأن هؤلاء ما خرجوا إلا شكراً لله على نعمة المطر ذلك اليوم!.

في حينه، لو أن الاعلام الرسمي تبنى مطالب الناس الإصلاحية قبل أن يسيطر على الحراك الشعبي إرهابيون ومتطرفون، ألم يكن شعبنا ليحتضن الدولة على سيئاتها؟

واليوم، وأمام هول الحرائق التي ألهبت قلب سوريا الأخضر، استمر الإعلام الحكومي في تجاهل الكارثة لأيام، في سياسة تتقلّد بالنعامة التي تخفي رأسها بالرمال ظناً منها أن عدم رؤيتها المخاطر فإن أحداً لن يلحظ وجودها؛ حتى لو كانت أفظع من أن يتم حجبها.

قبل هذا الخبر الفضيحة وبعد هذا التعتيم المكشوف، تتواصل عمليات التعمية والخداع من قبل الإعلام السوري والقائمين عليه، حتى بات مادةً للتندر والسخرية من قبل عموم السوريين (المؤيدون قبل المعارضين).

إعلام بات الجميع يعرفون أنه لايحترم عقولهم، ولم يكن صوتاً لهم في أزماتهم ومآسيهم، بل اختار أن يكون صوت فاسدي السلطة في مواجهة الناس.
وفي السلطة - لا شك - رجال صدقٍ وطهرٍ لكن لا صوت لهم، وإن بروزوا يْبعدون .

قبل أيام قليلة، ومع تجدد أزمة الخبز وطوابير السوريين على الأفران، كان ثمة مشهد يعيد صياغة العقلية إياها في مواجهة نقمة السوريين وصوت أنينهم المرتفع.

تم إبلاغ إدارة أحد الأفران في محافظة اللاذقية بقدوم فريق التصوير، وهذه رسالة معناها أنه "عليكم الاستعداد وتهيئة الأجواء لتصوير ريبورتاج يتم فيه تكذيب الأحاديث المتداولة عن أزمة خبز في المدينة!.
تعلم إدارة الفرن ما عليها فعله، فعقود من التعامل مع الإعلام الحكومي علمتها كما علمت الجميع، أن عليهم اختراع سيناريو مخالف للواقع، سيناريو متخيّل "لسوريا الجميلة وشعبها الهانئ والمكتفي، لسوريا العصية على الأزمات رغم كل شيء، سوريا التي تتعرض لسيول من الدعاية المضادة التي تستهدف زعزعة استقرارها وأمنها، وتأليب مواطنيها على سلطتهم"، عبر بث أكاذيب لا صحة لها .

في اليوم التالي كان كل شيء جاهزاً ومعداً لإنجاز ريبورتاج تلفزيوني كفيل بإسقاط أعتى المؤامرات: فرن الصليبة يعمل كما هو معتاد بطاقته الطبيعية، جميع العمال والموظفين على رأس عملهم يقومون بواجباتهم، الخبز متوافر بما يكفي ويزيد، وبالتالي الفرن جاهز لاستقبال "الأخوة المواطنين" وتلبية طلباتهم أياً كانت، لكن مع افتقاد المشهد لأهم تفاصيله الأساسية؛ الحشود التي اختفت فجأةً من أمام الفرن!
يقول أحد المواطنين الذي كان قد قضى نصف يومه، باحثاً عن ربطة خبز، فلم يجد سوى طوابير المتدافعين، وغضب المئات الذين يعودون أدراجهم دون الحصول على ما يقيت أبناءهم: "تنقلت من فرن إلى آخر دون أن أتمكن حتى من الحصول على رغيف خبز، كان المشهد نفسه في كل الأفران؛ المئات من المواطنين الذين ينتظرون منذ ساعات دون أن يحصلوا على مبتغاهم".

يضيف: "حتى وصلت في النهاية إلى فرن الصليبة الذي كان يستضيف فريقاً من التلفزيون، حيث تتراكم ربطات الخبز على الرفوف، فيما خلت نوافذ البيع من المواطنين. ويبدو أن وجودي غير المحسوب تحول إلى جزء من المشهد "المطلوب"، فحين سألت عن الخبز حصلت على ما أريد تحت عين الكاميرا وسمعها، ولم يفت الكاميرا أن تسجل سعادتي وحالة الرضا التي أصابتني بعد الحصول على قوت أولادي بهذه السهولة، بعد ساعات من البحث المضني".
يتكرر المشهد مرةً أخرى، وهذه المرة في إحدى المدارس، ليست المدرسة التي زارها وزير التربية الجديد وردد الشعار مع تلامذتها المذهولين، فيما كان يتفاخر ببغاواته الذين يفوقون "نشطاء الفيسبوك ذكاءً كما قال"، بل في مدرسة أخرى ومحافظة أخرى، ذلك أن الأوامر تأتي جماعية لكل مراسلي التلفزيون في المحافظات؛ أن هبّوا اليوم لتصوير عودة التلاميذ "السعداء" إلى المدارس.

يندفع فريق التصوير إلى إحدى المدارس التي كان قد أبلغ إدارتها بالاستعداد لهذه المهمة الجليلة، لتسجل الكاميرا إياها وجوه التلاميذ السعداء بعودة المدارس، والذين تحدّوا كورونا وجاؤروا إلى مدرستهم "رغم محاولة أعداء الشعب - قد يكونوا متنكرين على هيئة نشطاء على فيسبوك - بث الذعر في نفوس الطلاب والأهالي، في محاولة لتجهيل شعبنا ومنعه من تحصيل العلم والمعرفة".

هذه المرة اصطدمت الكاميرا بأكوام من المقاعد المكسورة في "كريدورات المدرسة"، ما أثار غضب ممثل التربية المرافق والمشرف على عملية التصوير، والذي أوقف التصوير بانتظار إخلاء هذه المقاعد، لكنّ تدخل أحد المدرسين ودعوته فريق التصوير للدخول إلى القاعات و"رؤية المزيد من المقاعد المكسورة التي سيجلس عليها أبناؤنا لبقية العام الدراسي" أفشلت عملية التصوير المرتجاة، فتأجل التصوير حتى اختراع طريقة لتفادي هذه المشاهد المؤذية لعين المتلقي السوري "الحساس" والذي لا يعرف بأن مدارسنا الحكومية، مصممة على شكل سجون، و تنعدم فيها المساحات والحدائق، كما أنه لا يعرف أيضاً أن مقاعد الصفوف التي يتعلم فيها أبناؤه تعج بخمسين أو ستين تلميذاً في الصف الواحد، وتفتقر لكل ما هو آمن وصحي، بدءاً بالمقاعد الخشبية، مروراً بالطباشير الذي يسبب الحساسية والربو، والكتب المتوارثة والمهترأة، وتفتقد للتدفئة شتاءً والتكييف صيفاً، ولكنها رغم ذلك تظهر على الشاشة "الوطنية" بأبهى حلّة، حيث تم تزيينها وتعقيمها أمام الكاميرات فقط، فيما تعج صفوفها وحماماتها بالأوساخ والجراثيم والحشرات التي قد يكون فيروس كورونا نفسه أخف وطأةً منها!

وهكذا، تستمر ذات العقلية "الإعلامية" بتعميق الهوة بين السوريين وإعلامهم، وبالأحرى؛ بين المواطن وبلده، الذي يبدو بأحسن حال في الإعلام وعلى ألسنة المسؤولين، فيما يختبر هذا المواطن يومياً بلداً آخر يختلف كلياً عما يراه ويسمعه على الساشات، ويختبر فيه أبشع أنواع الانتهاكات والتفقير والإذلال للحصول على أبسط ما يحتاجه الإنسان .

في الواقع، لم يكتفِ الإعلام السوري-بتوجيهٍ من القائمين عليه- بممارسة الخداع والأكاذيب على السوريين فيما يخص أزماتهم المعيشية والاقتصادية، بل زاد عليها بأن ساهم في بث الفرقة وتعزيز الانقسام بين الأخوة في الوطن الواحد.
هذا الدور الخطير لعبه الإعلام منذ بداية ما كان يسمى "الثورة" المطلبية التي كان يمكن للسلطة ان تتبناها إعلاميا وتقودها ضد نفسها، فتمنع دول معادية من تحويلها إلى حرب خارجية على بلادنا.

واليوم، تتكشف الحقيقة شيئاً فشيئاً أمام هذه الجماهير "المخدوعة" لترى أن اللعبة نفسها تستمر حتى بعد أن انتهت الحرب أو تكاد، وتستخدم ضد المواطن نفسه الذي قدم التضحيات وعانى الأمرّين، ليتحول إلى "خائن ومثير للقلاقل ومشارك في المؤامرة" إن تجرأ على رفع صوته وانتقاد هذا المسؤول أو حاول الإشارة إلى مواقع الفساد في هذه المؤسسة أو تلك، فالمطلوب اليوم كما سابقاً ودائماً هو الصمت والعض على الجرح، وإن تسبب ذلك في نزف صاحبه حتى الموت.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 1