بلد "الطوابير" .. وسيكولوجية الشعوب المقهورة!

كتب علي حسون

2020.08.31 - 09:03
Facebook Share
طباعة

 مئات المواطنين؛ رجال ونساء، كبار وصغار، يقفون في طوابير لا متناهية، طابور لاستلام ربطة الخبز "على البطاقة الذكية"، طوابير من السيارات ينتظر أصحابها أمام محطات الوقود لتعبئة ما توفر من البنزين "على البطاقة الذكية"، وطوابير أخرى تقف على أبواب "السورية للتجارة" لاستلام مخصصاتهم من الرز والسكر ( كيلو سكر وأقل من كيلو رز للشخص) وأيضاً "على البطاقة الذكية" ..

طوابير لا تنتهي على امتداد الوطن- ما بقي من وطن-، في دمشق طوابير، وفي حمص طوابير، في اللاذقية طوابير وفي حلب وحماة وريف دمشق، مئات آلاف السوريين يقفون بانتظار شيء ما، فأي شيء بات يستوجب وقوفاً على الطابور، حتى حين تطلب منك الحكومة أن تدفع إتاوةً ما لرفد خزينتها -المتهالكة بفعل الفساد والإفساد- عليك أن تقف في طابور، اسألوا الهاربين من جحيم الطوابير نحو بلاد الله الواسعة، كم يكلفهم وقتاً وإذلالاً وانتهاكاً وقوفهم في طوابير على أبواب المؤسسات للحصول على ورقة فحص كورونا، بينما يدفعون بالدولار مقابل هذا الإذلال ، يدفعون بالدولار مقابل الانتظار في طوابير مخصصة فقط لالتقاط العدوى وتناقلها فيما بينهم، كي يكتسب "القطيع" مناعته ضد المرض، وربما ضد كل ما من شأنه أن يشعره بأنه مواطن وله حقوق.

لا سبب آخر لتكديس الناس في طوابير مفتعلة إلا بهدف الإمعان في إذلالهم، وكسر ما تبقى من كرامة وإنسانية لديهم، هكذا يقول السوريون في اللاذقية ودمشق وحمص وحلب، وفي كل نقطة مما بقي من جسد هذا الوطن المحطم.
في اللاذقية، على سبيل المثال، شهدتُ الوقوف في طوابير البنزين والخبز والمواد الغذائية، حالة من الخذلان والمرارة تعشعش في نفوس الناس هنا، وهم من افترضوا بأنهم قدموا الغالي والنفيس كيلا يصلوا إلى ما وصلوا إليه، في الساحل عامةً وفي كل المدن التي وقفت إلى جانب "الدولة" - كما يقولون – تتكرر نفس الحالة من الغبن والخذلان .

لا أحد يقف في طابور لأنه مقتنع أنها الطريقة الأفضل للصمود، أو الآلية "الأذكى" لتسيير أمور الناس، جميعهم يرددون نفس المقولة أو ما بمعناها: "كل هذا لإذلالنا وتهشيم ما تبقى لدينا من مقاومة، فيما ينعم مصاصو دمائنا بكل الامتيازات والرفاه، ويتحصلون على المناقصات والاستثمارات التي لا تقدم لهذا البلد أو لنا إلا "الوقوف في طوابير".

يقولون أيضاً: ليست خطة لمقاومة الأعداء والعقوبات الاقتصادية والمؤامرات الكونية، أن تجعل ما تبقى من سوريين في هذا البلد، يكفرون بهذا البلد ويتحيّنون الفرصة للهرب والنجاة من هذا الجحيم، لأن ثمة من قرر استخدام الذكاء عليهم، عبر تكدسهم فوق بعضهم البعض كي يحصلوا على ربطة الخبز، هذه الربطة التي كانت يوماً ما خط أحمر.

ليس أسهل من انتهاك الخطوط الحمراء، والقفز فوقها أو محوها إن استلزم الأمر، في كل ما يتعلق بحقوق الناس واحتياجاتهم الأساسية، فيما تصطف الخطوط الحمراء وتتراصف في كل ما عدا ذلك، وليست الصحافة وحرية التعبير إلا واحد منها.

وبالدلالة على مستوى حرية التعبير في صفوف الطوابير اللامتناهية، لم يعد مستغرباً أن تسمع أحدهم وهو يعلق على خبر الإعلان عن التشكيلة الحكومية "الجديدة" بالقول : " وشو يعني .. وماذا تستطيع أن تفعل لنا هذه الحكومة أو أي حكومة.. هم مجرد موظفين" !!

نعم، للطوابير مفعولها السحري على الواقفين فيها، "تسلبهم" خوفهم المقيم منذ أجيال، وتحولهم إلى كائنات لا تخشى شيئاً، فما عاد الناس يجدون ما هو أكثر رعباً مما وصلوا إليه اليوم.

وبالمناسبة، لم يسترعِ كلام الرجل الواقف في طابور الخبز أي اهتمام من الواقفين خلفه وأمامه في الطابور، ليس لأنهم كانوا خائفين من الحديث أو الإدلاء برأيهم، لا، بل لسبب أعمق من ذلك، هم نأوا بأنفسهم عن التعليق سأماً من "اللاجدوى" التي باتت عنواناً لحياتهم، مكتفين بإشارات وإيماءات جسدية يمكن تشخيصها على أنها أعراض سريرية لأشخاص فاقدين لأي رغبة، ومتبرئين من أي أمل، أشخاص هم عينة من شعب لم يعد يعنيه شيء سوى الحصول على خبزه، والعودة إلى كهفه ومنفاه الخاص.

في سيكولوجيا الشعوب المقهورة، يصل الكائن إلى مرحلة التلاشي، فتتحوّل شعلة حماسه العام إلى نموذج منطفئ لإنسان مقهور ينكفئ على ذاته، تاركا كل ما يتعلق بالشأن العام برمّته، ومكتفياً بما يقضيه من أيامه في حياته الخاصة، ولاهثاً خلف حاجاته الأساسية التي تبدّد طاقته وإمكاناته ومن ثم حياته، دون أن يترك أثراً يذكر؛ فهو لا يعدو كونه رقماً في طابور، في بلاد يتفنن القائمون عليها باختراع الطوابير و تكديس الأرقام، ونبذ الرافضين لتصنيفهم كأرقام، في أحجية "سوريالية" لا نهاية ولا معنى لها!.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 8