مفتّش غوغول لا زال يعرّي الديكتاتوريّة

خاص - عادل أحمد شريفي

2020.07.28 - 11:37
Facebook Share
طباعة

 
لم يكن "نيكولاي غوغول" حين كتب مسرحيّته "المفتّش العام"، يدرك أنّه سيدخل عالم المسرح من أوسع أبوابه، فهو الرّجل الخجول، متقلّب الأهواء، الذي اشترى كل نسخ جريدة نشرت له قصيدة بعنوان "في آلوف" ليحرقها جميعاً مقسماً ألا يعود إلى الكتابة مجدداً، لكنّه عاد عن قسمه بعد أقل من سبع سنوات في العام 1836، ليؤلّف عملاً خالداً تمّ تصنيفه على أنّه من عيون المسرح العالمي، مع أعمال شكسبير وموليير وبريخت وتشيخوف. مسرحيّة "المفتش العام" كتبت لتركّز على كلّ أوجه الفساد والبيروقراطيّة لديكتاتوريّة القيصر في ذاك الوقت.

يتنامى إلى سمع مسؤولي بلدة نائية في الرّيف الرّوسي، أن حكومة القيصر سترسل مفتشاً سريّاً إلى المدينة، ويتزامن ذلك مع وصول موظفٍ حكومي مبعدٍ ومغضوبٍ عليه إلى القرية، اسمه خليستاكوف، فيظنّ أولئك أنّه هو المفتّش المنتظر، فيبدأ العمدة الفاسد وجوقة المطبّلين من المستفيدين من البيروقراطيّة بالتّقرّب من المفتش ومحاباته، باذلين الغالي والنّفيس في سبيل ذلك، إلى أن تنتهي القصّة بهروب خليستاكوف حاملاً معه الكنوز التي حصل عليها من تلك المغامرة، وأسرار مسؤولي البلدة، مكتفياً باللذائذ التي قُدّمت له، والأستار التي هُتكت لأجله. الغريب في الموضوع، أنّ القيصر حضر العرض الأوّل للمسرحيّة الذي أقيم في سان بيترسبورغ، وأنّه قام لدى انتهاء العرض بالتّصفيق ضاحكاً، الأمر الذي أراح الحاشية المضطربة طوال الوقت، فبدأ المسؤولون بالتّصفيق أيضاً، إلى أن قال القيصر ضاحكاً: "لقد نال كلّ واحد منكم نصيبه من العرض، ولكنني نلت القسط الأكبر منه!"، فضحك الجميع.

ربّما ساعد ذلك غوغول، الكاتب المغمور، في الحصول شهرة واسعةً وسريعة في عموم روسيا القيصريّة، ما لبثت أن امتدّت إلى أوروبا عموماً، بسبب خلافاتها الدّائمة مع روسيا، إن على سبيل الأطماع التوسّعيّة، أو على سبيل اختلاف المذهب الدّيني، محاولين النّيل من الدّيكتاتوريّة القيصريّة بعرض تلك المسرحيّة على مسارح فيينا وباريس ولندن وروما ومدريد، مبرزين من جهة أخرى اسم نيقولاي غوغول ككاتب صاعد سيتصدّر قائمة المسرحيين العالمين عبر التّاريخ.

المتابع لمجريات المسرحيّة، يستطيع أن يتعرف على ملامح الديكتاتورية دون عناء، فهي تصلح لكل زمانٍ يختصر التّاريخ بشخص أو طريقة، وفي أيّ مكان يتواجد فيه أناس يقدّسون الإجراءات ويزدرون الإنسان، الدّيكتاتوريّة التي باتت تتجلّى بصورٍ وأشكال أكثر مواراةٍ واستتاراً. في الحقيقة فإننا قد نلمح بعض التّسامح في أشكال الديكتاتوريّات التّقليديّة، كونها تركّز في بعض جوانبها على إنسانيّة الحاكم وسعة قلبه لمن لا يضع المسامير في طريق عجلة حكمه، لكنّ الديكتاتوريّات الحديثة المغلّفة بقشور من الديموقراطيّة، كانت الأشدّ على الإنسان من الأشكال القديمة منها، فجورج بوش الابن مثلاً، قاد شعبه إلى حربٍ قررها هو وإدارته، رغم رفض شعبه والعالم أجمع لها، حربٍ ليس لشعبه فيها أيّ مصلحة، جلبت الويل والدّمار للملايين من البشر بمن فيهم مجنّدي وضبّاط الجيش الأمريكي الذين تلقّوا ضربات المقاومة العراقيّة الباسلة على مدى عقدٍ من الزّمن، ومن قبلها فيتنام، وكمبوديا، وكوريا. الميزة الوحيدة التي تفرّق الديكتاتوريات التّقليديّة عن الحديثة، أنّ الأولى تعتمد في إرساء دعائمها على التّخويف والتّرهيب، بينما الثانية تعتمد على الإقناع وغسيل الدّماغ. وما بين التّخويف وغسيل الدّماغ يبقى المفتّش العام يحظى بالدّلال، وتقدّم له الأطايب، والملذّات، عسى أن يرضى الدّيكتاتور.
 

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 2