حين كان جسم الإنسان أكثر من "عورة" : "الموديل العاري" .. مهنة انقرضت بلا رجعة

هيا صالح حمارشة_ وكالة أنباء آسيا

2020.07.07 - 12:36
Facebook Share
طباعة

 طبيعة حيّة، عاشت عصرها، عصر النهضة والتطور، في البلدان العربية، لا سيما في مصر ولبنان وسوريا، في حقبة كانت "الموديل العاري" بالنسبة للفنان فرشاته وألوانه، واستمر ذلك منذ مطلع القرن الماضي، حتى أوائل ثمانينات القرن ذاته، الذي بدأ يبدد هذا الجزء في كليات الفنون الجميلة، واعتباره من الأمور المخالفة للعادات والتقاليد المجتمعية، التي ترفض مكوث جسد امرأة عارٍ أمام مجموعة طلاب لرسمه، وذلك في ظل التمدد الديني، الأمر الذي اعتبره الفنانون التشكيليون بمثابة تحول لكليات الفنون من مكان بنبض بالحياة والفن، إلى صحراء قاحلة.

الموديل العاري

في لبنان كان "الموديل العاري" في مادة التشريح الجمالي، من المواد الأساسية في اختصاص الفنون التشكيلية، وتم تعديله فيما بعد بموديل غير عار للرجل أو المرأة من خلال لباس يتناسب مع الأعراف الاجتماعية.

أما في مصر فكان أول موديل عارٍ هو عبد الوهاب هيكل عام 1908 في مدرسة الفنون الجميلة، ولكن فيما بعد اندثرت هذه المهنة، لأنها لا يتناسب مع الأخلاق العامة، لكن عميد كلية الفنون الجميلة في مصر، صفيةالقباني، أكدت أنه لم يتم الغاؤها حتى الآن، ولكنها مشروطة ضمن بوجود طبيب بشري يحلل كل عضو في الجسد.

في سوريا الستينات..

في مطلع القرن الماضي لم يكن في سوريا كلية للفنون الجميلة، لذلك فقد درس جيل الرواد من الفنانين السوريين في مصر أو في المدارس و الكليات الغربية، و نقلوا حين عودتهم إلى سوريا تقليد الموديل العاري في مراسمهم و محترفاتهم، من أبرز هؤلاء فتحي محمد و ناظم جعفري و محمود حمّاد حيث يبدو الموديل العاري حاضراً و بقوة في أعمالهم.

مطلع الستينات تم تأسيس كلية الفنون الجميلة بدمشق و كان الموديل العاري مادة أساسية، و حين كان الموديل يغيب لسبب ما كان أحد الطلاب يقوم بالحلول مكانه، آنذاك كان هناك ميزانية مخصصة للموديل العاري من قبل الكلية و كان الموديل يعتبر تقريباً موظفاً لدى وزارة التعليم العالي، و يذكر فنانو تلك الحقبة أن من بين من قاموا بدور الموديل العاري مطلع السبعينات الفنانة المعروفة نبيلة النابلسي. و حول طريقة تعامل الطلاب آنذاك مع الموديل العاري يقول الفنان التشكيلي أسعد عرابي في أحد مقابلاته : "كانت تغلق الأبواب و خاصة على غرباء الكلية، ويتم رسم الموديل العاري بالرصانة نفسها التي يتم بها اليوم تشريح الجثث في كليات الطب. ذلك أدى إلى علاقة رصينة بين الطلاب والأساتذة مع الموديل التي كانت تتمتع بالاحترام، بل وبنوع من الاعتراف بالجميل. كما ويتحوّل عمل الموديل إلى مهنة كريمة كباقي المهن".

موديل.. رجل وامرأة

الفنان السوري محمود شيخاني، والمختص في قسم الرسم الزيتي، خريج دفعة 1971، من كلية الفنون الجميلة في دمشق، كان شاهداً على أوج الموديل العاري واندثاره في دمشق، يقول: "أنشأت كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1960، فكانت نسخة من الكلية المصرية، ليوضع نفس القونين. ولم تستقبل الكلية حينها أكثر من 30 طالباً، وفي مادة التشريح، كان هناك العديد من الموديل العاري، سواء رجال أو نساء، منهم "أم صباح" وهي مصرية ذات لون فاتح، وأيضاً كريمة المصرية وأختيها من مصر ذوات اللون الغامق، حتى أنه كان هناك موديل رجل، واسمه أبو الفوز، وكنا طلاب وطالبات نجلس أمامه، دون وجود أي مشكلة أو حرج.

يحدد شيخاني الذي يقيم اليوم في برلين بألمانيا خلال حديثه، عن الموديل العاري، سببين لاندثار هذا الجزء من المنهاج: "ترافق الموديل العاري مع بعض التطورات التي حدثت في بداية الثمانينات على مستوى المنطقة، منها المد الديني الذي بدأ في العالم العربي والمنطقة ، مما أثر على توجه المجتمع وأفكاره من جهة، ومن جهة أخرى على "دكاترة" كلية الفنون الجميلة أنفسهم.

وكان هناك سبب آخر في انحدار كلية الفنون الجميلة، وإلغاء الموديل العاري من مادة التشريح الحي، كما يرى شيخاني، وهو أن البعثات التي كانت تعطى للخريجين الأوائل، بدأ حينها يتخللها استثناءات تؤخذ من وزير التعليم العالي، شرطيها الوحيدين هما السن والعمر، وبالتالي ذهب أشخاص غير مؤهلين وذوي مستوى عادي مقارنة بالأوائل، ولم يكن يعني لهم الموديل العاري شيئاً وحتى لا يرون أهميته، فكل ما يهم هو حرف الدال قبل أسمائهم، فلو كان هناك تصدٍ من قبلهم لما تم إزالة هذا الجزء المهم من الكلية، ولا أنفي وجود أشخاص في الكلية كانوا أقوياء، وليس لديهم أي مانع تجاه الموديل العاري، ولكنهم أصبحوا متدينين، وبالإضافة مع الظروف المحيطة التي أدت إلى إلغائه . ولم يختلف الأمر في لبنان ومصر، فكان للمد الديني نفس التأثير على الفن، وعلى "الموديل العاري".

تمثال عشتار

يذكر الفنان محمود شيخاني بالمثال حادثة تبيّن نوعية وسبب الرفض فيما يخص موضوع التعرّي، مستذكراً قصة تمثال عشتار الذي وضع في أحد الشوارع الدمشقية، حيث أثار الموضوع جدلاً واسعاً لدى المجتمع السوري، موضحاً أنه هو أيضاً لم يعجبه التمثال، ولكن من الناحية الفنية، حيث لم يكن ذو بنية جيدة، وليس كما رفضه المجتمع معللاً رفضه باعتباره أحد المحرمات الدينية، لكن ضعف بنية الأكاديميين في الكلية، والذي تم تعليله في الأعلى بسبب استثناءات البعثات الدراسية - ولو كان الاعتماد الأكبر على جهد الفنان الشخصي وأن الكلية دورها مساعد فقط - إلا أن هذا الضعف أدى إلى الوصول إلى هذه المرحلة من الانحدار، والانحدار كما النهضة، يأتي دفعة واحدة وعلى مستوى الوطن العربي بأكمله، كما يقول شيخاني.
عميد كلية الفنون في دمشق إحسان العر، يبرر غياب الموديل، بس انغلاق المجتمع، حيث كان جيل الستينات أكثر انفتاحا وتطوراً، لما حمله من فهم صحيح للدين والفن أكثر من الوقت الحالي.

هيمنة الفكر الأحادي

من جهته، أحمد الصوفي، وهو عضو في اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا، وخريج دفعة 1999 من كلية الفنون الجميلة في دمشق، والذي يعتبر من الجيل المعاصر، لم يتسنَ له حضور عصر الموديل العاري، يقول: "إن هيمنة الفكر الأحادي الجانب لعب دوراً كبيراً فيما نحن فيه من تخلف ثقافي، حيث حولوا الكلية من مكان قابل للحياة إلى صحراء. يضيف: عندما كنت طالباً في الجامعة، كان علي سرميني هو العميد، ورفض فكرة إعادة الموديل العاري، بحجة الراتب الذي لا يستطيع دفعه للموديل، فإذا كان القائمون على الكلية من عمداء وأساتذة هم من ساهموا في إلغاء الموديل العاري، من سيحتج على ذلك، وبرأيي الموضوع عند الطلاب، هم من يجب أن يحتجوا، وأن لا يقبلوا إعطاء المادة عن طريق صور من الإنترنت".

أما بالنسبة للفنان محمود شيخاني، فقد اختتم حديثه، بأنه لا يمكن تأطير الموضوع والتغييرات التي حدثت في حقبة أواخر السبعينات والثمانينات، بمادة الموديل العاري وإلغاؤه من الفنون التشكيلية في البلدان العربية، بل كان هذا الموضوع جزءاً صغيراً من العديد من التغيرات التي طالت بنية مجتمعاتنا وهو مستمر حتى يومنا هذا .

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 5