منذ لحظة انهيار النظام السابق في سوريا، بدأت تتكشف فصول موجعة من الماضي، تتجلى في أشكال مرعبة من الجرائم والانتهاكات. من بين أكثر هذه الشواهد رعباً، برزت المقابر الجماعية، التي لا تروي فقط قصص موت، بل تفضح منظومة من القمع والقتل المنهجي، وتوثق لحظات مريرة من الألم والفقدان عاشها السوريون خلال سنوات الحرب الطويلة.
لم تعد هذه المقابر مجرد قبور مخفية، بل تحولت إلى أدلة صارخة على جرائم جرى تنفيذها بدم بارد، تحت غطاء أجهزة أمنية وعسكرية، في سياق سلطوي لم يعرف سوى البطش وسحق الإنسان. وامتدت خريطة المقابر الجماعية من الجنوب إلى الشمال، ومن العاصمة إلى الريف، كاشفة عن تاريخ طويل من التصفية الجسدية والإخفاء القسري.
ففي أنحاء البلاد، تم العثور على عشرات المقابر التي احتضنت آلاف الجثامين، غالبيتها مجهولة الهوية، منها أطفال ونساء وشيوخ، قُتلوا بطرق شنيعة، منها الحرق وهم أحياء، أو الذبح، أو التصفية داخل السجون والمعتقلات. وفي بعض المواقع، عُثر على جثث كانت مكدسة داخل آبار، أو مدفونة في أراضٍ زراعية مهجورة، أو حتى ملقاة داخل مخازن ومستودعات كانت تُستخدم من قبل القوى الأمنية.
أبرز تلك الاكتشافات كانت في حمص وريف دمشق، حيث تم العثور على مقابر تضم مئات الضحايا، يعتقد أن بعضهم قضى تحت التعذيب، أو جرى دفنهم مباشرة من المستشفيات العسكرية بعد وفاتهم نتيجة سوء المعاملة. وفي درعا، تكررت مشاهد المقابر التي كشفت جرائم صادمة، منها حرق مدنيين وهم أحياء داخل مزرعة كانت تخضع لسيطرة أمنية مشددة. أما في حماة، فقد ظهرت أدلة على إعدامات جماعية داخل الآبار، مما يعكس وحشية لا حدود لها.
هذه القصص لا تقف عند حدود التوثيق، بل تحمّل المجتمع الدولي مسؤولية حقيقية. فكل مقبرة تكتشف اليوم هي صوت صارخ يطالب بالعدالة والمحاسبة، ويكشف أن ما جرى لم يكن نتيجة فوضى أو صراع عشوائي، بل جزء من آلة قتل منظّمة. وأعداد الضحايا التي وصلت إلى آلاف، ليست سوى جزء من الحقيقة، إذ لا تزال العديد من المناطق خارج القدرة على التفتيش، وهناك آلاف المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم بعد.
ورغم تغير المعادلات السياسية على الأرض، فإن ملف المقابر الجماعية يبقى من أكثر الملفات حساسية وضرورة للطرح. هو ليس مجرد ملف جنائي، بل قضية إنسانية تمسّ ذاكرة أمة، وتفرض على الجميع عدم السماح بمرور هذه الجرائم بصمت. فكل ضحية تم دفنها دون اسم، تمثل فصلاً من حكاية شعب عانى وذاق الويلات، وما تزال عائلات كثيرة تبحث عن جواب واحد: أين أولادنا؟
اليوم، ومع استمرار الكشف عن المزيد من هذه المقابر، يظل السؤال الأهم: متى تُفتح أبواب العدالة؟ ومتى يُحاسب الجناة؟ فالقبور لا تُنهي القصص، بل تفتحها على مصراعيها، وتبقي الحقيقة حيّة، حتى وإن دُفنت في أعماق الأرض.