منذ أن تولى أحمد الشرع رئاسة سوريا في 8 ديسمبر 2024، بعد انهيار نظام بشار الأسد، ظل النظام الجديد في دمشق محط أنظار واشنطن التي تبنت موقفًا مبدئيًا بتحفظ واضح تجاه حكومة الشرع. ورغم أن الرئيس الشرع يمثل بديلاً غير تقليدي عن نظام الأسد، إلا أن الموقف الأمريكي ظل ثابتًا، حيث أعلنت واشنطن أنها لن تعترف بحكمه حتى يستجيب لبعض الشروط التي تضعها الإدارة الأمريكية.
ما يثير الاهتمام في هذا السياق هو أن الرفض الأمريكي الرسمي ليس متعلقًا فقط بالشق الأمني أو "هيئة تحرير الشام" التي يديرها الشرع، وهي منظمة تصنفها الولايات المتحدة ضمن الجماعات الإرهابية، بل يمتد إلى هدف أكبر يشمل تطبيع العلاقات السورية مع إسرائيل. الأمر الذي يعكس أن تحرك الإدارة الأمريكية تجاه حكم الشرع ليس مجرد ممانعة لتجاوزات زمنية أو سياسية، بل هو جزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحجيم دور سوريا في المنطقة.
التعاون الأمريكي المخابراتي مع هيئة تحرير الشام:
منذ بداية الثورة السورية المسلحة في 2011، كانت الولايات المتحدة قد أبدت دعمًا ضمنيًا للمعارضة السورية، وهو ما تطور لاحقًا إلى تعاون مخابراتي مع مجموعة من القوى المسلحة على الأرض. وكان من بين هذه القوى "هيئة تحرير الشام" التي تمثل أحد الأذرع العسكرية التي كان لها دور كبير في المعارك ضد النظام السوري. ورغم التعاون الاستخباراتي المكثف بين الولايات المتحدة و"هيئة تحرير الشام"، لم يؤدي هذا التعاون إلى أي نوع من الاعتراف الأمريكي رسميًا بحكم الشرع أو رفع العقوبات عن سوريا أو "هيئة تحرير الشام". في الواقع، ظل الشرع وكل من ينضوي تحت حكومته ملاحقين بالقائمة السوداء للعقوبات الأمريكية، وهو ما يبرز التباين بين التعاون الأمني والتقارب السياسي.
الشروط الأمريكية لتطبيع العلاقات:
إن التحفظ الأمريكي على حكومة الشرع ينبع من رغبة الإدارة الأمريكية في تحقيق تطبيع سوري مع إسرائيل، وهو شرط أساسي لرؤية واشنطن لمستقبل سوريا في خريطة التحولات الإقليمية. بشكل خاص، يبدو أن الولايات المتحدة، تحت قيادة إدارة ترامب السابقة، جعلت من اعتراف سوريا بضم الجولان إلى إسرائيل حجر الزاوية لأي عملية سياسية مستقبلية. ولذلك، يظل هذا الشرط العائق الأكبر أمام أي اعتراف رسمي أمريكي بحكومة الشرع، وهو أيضًا شرط مستمر رغم تغييرات القيادة في سوريا.
التحفظ الأمريكي، كما يرى العديد من الكتاب في الصحافة الأمريكية والبريطانية، يتعلق أيضًا بنية واشنطن في ضمان ألا تتعاون حكومة الشرع مع إيران أو حزب الله أو أي من القوى التي تصنفها الولايات المتحدة على أنها معادية لإسرائيل. كما تشير هذه الصحف إلى أن هناك رغبة أمريكية كبيرة في أن تظل الموارد النفطية السورية – سواء البرية أو البحرية – تحت سيطرة الشركات الأمريكية، ما يجعل مصالح أمريكا الاقتصادية على رأس الأولويات في أي اتفاقات مستقبلية مع سوريا.
في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" في يناير 2025، أكدت الصحيفة أن واشنطن لن تتسامح مع أي حكومة سورية تبدي رغبة في تحسين العلاقات مع إيران أو تقدم تنازلات لمنظمات تعتبرها الولايات المتحدة "إرهابية". وأضافت الصحيفة أن الولايات المتحدة ستستمر في اتباع سياسة الضغط على الحكومة السورية الجديدة حتى تقبل بشروط التطبيع مع إسرائيل وتنفيذ رؤية واشنطن للمنطقة.
أما صحيفة "التايمز" البريطانية فقد أكدت في تقريرها الشهر الماضي أن الموقف الأمريكي يتسم بمزيج من الحذر والضغط المشترك على دمشق. ورأت الصحيفة أن الولايات المتحدة تضع في حساباتها المستقبلية أن الاستقرار في سوريا يجب أن يترافق مع موافقة سوريا على التنازل عن الجولان، وأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو الممر الإجباري نحو رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية على دمشق.
التوقعات المستقبلية:
رغم الضغوط الكبيرة التي يواجهها الشرع، فإن أحد الاحتمالات الواقعية هو أن الحكومة السورية الجديدة قد تختار السير في هذا الطريق بشكل تدريجي، ربما عبر التصريحات السياسية التي تشير إلى استعدادها لمفاوضات تطبيع مع إسرائيل شريطة الحصول على تعهدات حول السيادة السورية على الأراضي الأخرى ورفع العقوبات عن البلد. من جهة أخرى، قد تواصل الإدارة الأمريكية سياسة الانتظار، متمسكة برفض أي نوع من أنواع الاعتراف بحكومة الشرع حتى يتحقق هذا التقدم على الأرض.
في النهاية، يبدو أن تحفظ أمريكا على حكم أحمد الشرع ليس مجرد نتيجة لظروف داخلية أو لتفاصيل تتعلق بالهيئات الإرهابية أو حتى العقوبات. بل هو جزء من صفقة سياسية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالح استراتيجية تخص إسرائيل والغرب، حيث يتمحور كل شيء حول الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان والتعاون الكامل مع إسرائيل في الأمن والنفط. وبذلك، قد يظل التحفظ الأمريكي على حكومة الشرع ساريًا إلى أن تنصاع دمشق للمطالب الأمريكية، وهو ما قد يقود سوريا إلى مفترق طرق تاريخي في علاقاتها مع الغرب وإسرائيل.