تعيش سوريا منذ أكثر من عقد من الزمن حالة من الفوضى نتيجة للحرب الأهلية المستمرة، التي شهدت العديد من التغييرات في توازن القوى بين مختلف الأطراف المحلية والدولية. ومنذ بداية الأزمة في عام 2011، تعددت محاور الصراع وتغيرت بشكل مستمر، ما أدى إلى تعقيد المشهد العسكري والسياسي. في الآونة الأخيرة، شهدت المنطقة الشمالية الغربية من سوريا تصعيدًا عسكريًا جديدًا، حيث أطلقت الفصائل المعارضة المسلحة، بقيادة "هيئة تحـ.ـرير الشام" والفصائل الأخرى الموالية لتركيا، عملية عسكرية ضد قوات الجيش السوري في مناطق إدلب وحلب.
تبدأ الأحداث الأخيرة في سوريا مع الهجوم الذي شنته الفصائل المسلحة تحت اسم "ردع العدوان"، في 27 نوفمبر 2024، على مناطق تقع في ريفي إدلب وحلب. الهجوم، الذي تزامن مع تزايد التحركات العسكرية، أسفر عن اشتباكات عنيفة بين الجيش السوري والفصائل المسلحة، وأدى إلى سقوط العديد من القتلى من الطرفين. وهو الهجوم الأوسع منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين روسيا وتركيا في عام 2020.
و تسعى الفصائل المسلحة إلى توسيع مناطق نفوذها على حساب الحكومة السورية، بينما تسعى دمشق لاستعادة سيطرتها على كافة الأراضي السورية، بما في ذلك تلك التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة.
مع بداية الهجوم في 27 نوفمبر، تمكنت الفصائل المسلحة من السيطرة على العديد من القرى والبلدات في ريفي إدلب وحلب، مما شكل تهديدًا مباشرًا لقوات الجيش السوري. بحسب تقارير معارضة، قُتل خلال هذه الاشتباكات أكثر من 180 شخصًا، منهم 80 من عناصر "هيئة تحرير الشام" و19 من "الجيش الوطني" الموالي لتركيا، و54 من القوات الحكومية.
وركزت فصائل المعارضة على السيطرة على الطرق الرئيسية التي تربط بين حلب ودمشق، وهو ما يمثل نقطة استراتيجية هامة بالنسبة للجيش السوري.
الدعم الخارجي والتوازن الإقليمي
كما هو الحال في العديد من الصراعات السورية، فإن التوترات العسكرية الحالية ليست محلية فقط، بل هي أيضًا مرتبطة بالصراعات الإقليمية والدولية. تركيا، التي تدعم فصائل المعارضة المسلحة، تراقب عن كثب تطورات الوضع، حيث أرسلت تعزيزات إلى المناطق الحدودية لمراقبة الحدود وضمان أمن قواتها في المنطقة. وفي المقابل، روسيا، التي تدعم الحكومة السورية، كانت قد كثفت غاراتها الجوية على مواقع المعارضة، ما أدى إلى مقتل مسلحين في العديد من المناطق.
ما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا هو التأثيرات المحتملة للسياسات الغربية، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، التي تسعى جاهدة لضمان مصالحها في سوريا. ويشير بعض المحللين إلى أن التصعيد في شمال غرب سوريا قد يكون مدعومًا بشكل غير مباشر من أطراف إقليمية، بهدف الضغط على الحكومة السورية وإضعاف سيطرتها على المناطق الاستراتيجية.
أهداف العملية العسكرية "ردع العدوان"
أعلنت الفصائل المسلحة، بقيادة "هيئة تحـ ـرير الشام"، أن الهدف من عملية "ردع العدوان" هو توسيع المناطق الآمنة التي يمكن للمدنيين العودة إليها، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول نوايا هذه الفصائل. فقد فشلت المعارضة المسلحة طوال سنوات الحرب، ورغم ذلك لا يزال هناك محاولات لتوسيع نطاق سيطرتها على الأرض.
من جهته، اكد الجيش السوري أن الفصائل المسلحة تشن هجوما غير مبررا على المناطق الآمنة والنقاط العسكرية، واعتبرها عملية إرهابية تهدف إلى نشر الفوضى. ووفقًا للبيانات الرسمية الصادرة عن الجيش السوري، فإنه تم تصدي هذا الهجوم، وحققت القوات الحكومية مكاسب كبيرة في مواجهات عدة، مستعيدة بعض المواقع التي كانت قد فقدتها سابقًا.
الأبعاد الإنسانية
الجانب الإنساني في التصعيد العسكري لا يقل أهمية عن الأبعاد العسكرية. فهجوم الفصائل أدى إلى سقوط العديد من الضحايا. وتعيش العديد من العائلات في حالة نزوح جماعي ما يضاعف المعاناة الإنسانية في المنطقة.
التأثيرات الإقليمية والدولية
التصعيد العسكري الأخير في شمال غرب سوريا يعكس إلى حد كبير الأوضاع الإقليمية المتأزمة في المنطقة. فمن جهة، نجد أن تركيا تتبنى سياسة داعمة للمعارضة المسلحة في شمال سوريا، وهو ما يتعارض مع المواقف الروسية، التي تدعم الحكومة السورية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها أنقرة وموسكو في تحقيق نوع من التفاهمات في الماضي، فإن الصراعات المحلية والمصالح الاستراتيجية تعيق تحقيق أي استقرار طويل الأمد في المنطقة.
من جهة أخرى، تدرك القوى الدولية الموقف الحساس في سوريا. فبالإضافة إلى الدعم الروسي لدمشق، هناك مواقف متباينة من الأطراف الغربية، حيث تواصل الولايات المتحدة الضغط على دمشق، بما في ذلك من خلال العقوبات المفروضة عليه. وفيما يتعلق بتصعيد الوضع في إدلب وحلب، يبدو أن هناك محاولات لتوجيه الضغط على دمشق عبر إطالة أمد الصراع في المنطقة.
المستقبل المجهول
مع استمرار العمليات العسكرية في شمال سوريا، يبقى السؤال الأهم: ما هو مستقبل الوضع في هذه المنطقة؟ هل ستنجح الفصائل المعارضة في توسيع نطاق سيطرتها ؟ حتى الآن، لا يمكن الجزم بأي من هذه التساؤلات، في ظل التوازنات المعقدة على الأرض والتدخلات الإقليمية والدولية التي تزيد الوضع تعقيدًا.
المرحلة المقبلة في سوريا قد تشهد تصعيدًا إضافيًا، خاصة إذا فشلت جميع محاولات التوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار. ومن المتوقع أن تواصل الفصائل المسلحة عملياتها لتوسيع مناطق نفوذها، فيما ستحاول الحكومة السورية استعادة السيطرة على الأراضي التي فقدتها، بدعم من الروس.
خاتمة
القتال في شمال غرب سوريا ليس مجرد صراع محلي بين الجيش السوري والفصائل المعارضة، بل هو جزء من معركة إقليمية ودولية ذات أبعاد استراتيجية. إن التصعيد الأخير يعكس تطورات خطيرة في الوضع العسكري والسياسي في سوريا، ويعكس التحولات المستمرة في توازن القوى الإقليمي. في ظل هذا الوضع المعقد، سيظل من الصعب التنبؤ بمستقبل الصراع في سوريا، لكن المؤكد هو أن الدماء ستستمر في الانسكاب حتى يتم التوصل إلى حلول دائمة، وهو أمر يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن.