كتب المهدي مبروك: هل يدرك قيس سعيّد رسائل الشارع؟

2022.05.16 - 06:20
Facebook Share
طباعة

 يحتكم الناس، في الديمقراطيات العريقة، إلى صناديق الاقتراع، حيث تعبر الانتخابات عادة عن ميول الشعب وتوجهاته العامة، خصوصا حين يجد عرضا سياسيا تتعدّد فيه البرامج، عارضة أفكارا ورؤى ومقترحات مختلفة. تستند، في ذلك، إلى رؤى وأيديولوجيات وسرديات عديدة. ومع ذلك، لم يجر استبعاد الاحتكام إلى الشارع في أثناء الأزمات الكبرى والحادّة، فنشأت، من حين إلى آخر، حركاتٌ احتجاجيةٌ استطاعت إيصال صوتها من خارج تلك الصناديق، ما دفع تلك الحكومات المنتخبة إلى تعديل سياساتها وبرامجها أو الاستقالة أحيانا حين يتبين لها أنها، لسبب أو لآخر، لم تعد قادرةً على تنفيد سياساتها. حدث هذا في أكثر من حالة وبلد.


لا يتحرّك الشارع إلا في أنظمة ديمقراطية أو منفتحة على مسارات ديمقراطية قادمة، لذلك تغيب تماما أي تحرّكات احتجاجية في الأنظمة الاستبدادية. هناك، استطاعت الحركات الاجتماعية أن تعبئ قدراتٍ هائلةً وفاعلين سياسيين نقابيين من أجل إثارة قضايا نبيلة وفرض الاستجابة لجملة من المطالب. ولذلك كان مدار الصراع دوما بين السلطة والمعارضة هو الشارع والقدرة على تعبئته. ويحتل الشارع، في سياقات التحوّل الديمقراطي، مكانة استثنائية، خصوصا وأن المجتمعات تلك بدت حضائر عددية مفتوحة على موازين قوى ليست واضحةً أو محسومةً بين مختلف الفرقاء. في هذه السياقات، لا يحتكم الناس إلى صناديق الاقتراع فحسب، بل أيضا إلى الشارع، من حين إلى آخر، فتسود حالات عدم الاستقرار السياسي، خصوصا في ظل تقادم الديمقراطية التمثيلية وتسارع حالة العزوف السياسي التي تضرب، بشكل متزايد، شرائح اجتماعية وعمرية، تتسع من حين إلى آخر.


منذ انقلاب 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021)، وبعد مضي ما يزيد عن تسعة أشهر، ما زال الشارع يمثل رهانا تحرص كل من المعارضة والسلطة على كسبه. تسعى المعارضة إلى تعبئة الشارع واستعراض قوتها ما أمكن، لترسل إلى سعيّد، خصمها اللدود، جملة من الرسائل، أدناها أن "الشعب ليس معك" وأنه منقسم. كان الرئيس منذ الانقلاب مغرما بشيطنة الشارع الذي يشاكسه، ففي أول تحرّك للشارع المناهض للانقلاب في أواسط شهر سبتمبر/ أيلول، تحول الرئيس، من دون سابق إنذار أو مناسبة، إلى مدينة سيدي بوزيد، ليردّ على الشارع الذي تحرّك متهما من نزلوا للتظاهر بالمخمورين والمأجورين، وقطعت قوات الأمن الطرقات ومنعت الناس من التوافد على العاصمة، وجرى إيقاف بعض المتظاهرين، ليتّهموا بتهم سخيفة، على غرار حمل أسلحة بيضاء، والحال أنها مفاتيح أو ملاعق .. إلخ.

لم تكن آنذاك أعداد النازلين إلى الشوارع كبيرة في البدايات، ولكنها كانت جريئة وبليغة، إذ أعلنت، لأول مرّة، سواء للأطراف الداخلية أو الخارجية، أن حالة الإجماع حول سعيّد التي يدّعيها ليست إلا وهما، وأن الشارع حقيقةً منقسم، بقطع النظر عن الغلبة، سواء كانت لهذا الطرف أو ذاك. وسرعان ما ردّ الرئيس، في الأسابيع التي تلت تحرّكات شهري أكتوبر/ تشرين الأول وسبتمبر/ أيلول بتظاهرات مؤيدة له، قدّرها الرئيس بمليون وثمانمئة ألف .. ما سبب موجة من السخرية، إذ يبدو أن الرئيس كان ضحية ما قدّم له مستشاروه من أرقام  مزيفة لوكالة أنباء مرموقة كذّبت ذلك، مستنكرة التلاعب بأرقامها.


وما زالت المعارضة تعبئ الشارع، رغم حالة الانشطار المجتمعي والانقسام الذي شج المعارضة حول مخيمين مناهضين للانقلاب: مواطنون ضد الانقلاب (جبهة الخلاص الوطني) وتنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. ورغم أن المخيمين يعارضان الانقلاب، فإن حالة الجفاء بينهما حادّة على خلفية ضرورة استبعاد حركة النهضة، أو على الأقل ربط قبولها بضرورة النقد الذاتي، وهو ما ترفضه الحركة، معتبرة أن المسؤولية جماعية، وأن النقد الذاتي هذا لا يجري في مناخات الانقلاب.

غير أن الواضح أنه كلما "تقادم" الانقلاب توسع الشارع المناهض لسعيّد، حتى أصبح الشارع المساند له أقلية حقيقية، ففي مظاهرة 8 مايو التي دعا إليها مناصروه، وضخّوا من أجلها المال، واستعملوا أجهزة الدولة والتضليل الإعلامي الذي حظيت به، فإن المدن التونسية لم تشهد أي تحرّك له دلالة، بل لم يتجاوز من حضروا منهم في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة لم يتجاوز عددهم آلافا تعد على أصابع اليد الواحدة بشهادة وكالات أنباء عالمية أكثر موضوعية، خصوصا وأن وزير الداخلية نزل ليخطب في الجماهير في مخالفةٍ لأعراف الأمن الجمهوري ومقتضيات عقيدته.


يتطلّع الناس إلى تداعيات تحرّكات يوم أمس التي استطاعت، مرة أخرى، أن تبيّن حالة الانقسام التي يعيشها الشارع وترجيح كفّة معارضة قيس سعيّد إلى حد كبير. ولكن وبقطع النظر عن حجم التحرّكات تلك، فإن الرسائل عادة لا تصل إلى الرئيس، إما لعدم قدرته على إدراك معانيها، أو لأن المحيطين به يترجمونها له ترجمة خاطئة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 8