كتبت نجيبة حسين: تونس ورياح التغيير

2021.09.25 - 11:25
Facebook Share
طباعة

 الوضع الذي تمرّ به البلاد التونسية، إثر 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، شبيه بالبالون الممتلئ الذي تعاظم حجمُه منبئا بانفجارٍ وشيك. قرابة الشهرين مرّا على تلك اللحظة الفارقة والمفصلية، ولا يزال الغموض يكتنف المستقبل، ولا تزال كل السيناريوهات والاحتمالات السياسية والدستورية والقانونية مفتوحةً على مصراعيها نحو المجهول. تساؤلات عدة تُطرح وتعدّ مثارا للجدل: من يتحكّم بخيوط اللعبة؟ ومن يسير ويدبّر ويخطط؟ من يحسم الأمور حين يستبدّ الخوف وينسدّ الأفق وتكثر التأويلات والتخمينات؟


يبدو رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، ماسكا زمام الأمور، متمكّنا من الحيثيات والتفاصيل التي تكتنف خبايا المشهد السياسي وحقائق الفاعلين فيه ومكائدهم، وما يدبرون في جنح الليل وخلف الجدران المظلمة. لكنه ما عدا التدابير الاستثنائية التي اتخذها، تطبيقا للفصل 80 من الدستور، وماعدا تلك الرجّة التي أحدثها، وأربكت الخصوم السياسيين وأصابتهم في مقتل وهزّت الشارع هزّا فهلل لها وغنى واستبشر، وتوسّم خيرا في المستقبل.. لم يعلن إلى يومنا هذا عن خريطة طريق أو برنامج إنقاذ وطني وإصلاح سياسي وتصحيح للمسار الذي انحرف وتدحرج، وأصابته كل العلل والأسقام، فبعد تجميد صلاحيات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإعفاء رئيس الحكومة من مهامها، وملاحقة الفاسدين والمهرّبين والمحتكرين وناهبي المال العام أفرغ الجراب بما فيه.


وانتظر الشعب الذي يريد التغيير والكشف عن الحقائق المخفية وبؤر الفساد في الدولة وفي الاقتصاد، لعل المستقبل يتضح ويزول الغشاء، وتنكشف ملامح المرحلة المقبلة التي أرادها رئيس الجمهورية قطيعة تامة وقطعية مع الماضي القريب والبعيد، وبداية عهدٍ جديدٍ، تعود فيه السيادة إلى الشعب، ولا ترتهن إرادته للمافيات وتجار الدين وشبكات الفساد والاتجار بدماء الشهداء وبقوت الشعب ومقدراته وأحلامه وطموحاته. أرادها أيضا قطعا مع مشهد سياسي بائس، يطغى عليه العنف وتسوده البذاءة والاستهتار والابتزاز، وتغيب فيه الأخلاق وروح المسؤولية والغيرة على الوطن والمصلحة العامة والتعبير عن هموم الشعب، إذ بلغت الصراعات السياسية والحزبية حدا من الانحطاط والتقاتل، ينذر بحلول الكارثة والانفجار الوشيك باندلاع حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس، ويذهب ضحيتها غالبية الشعب المغلوب على أمره، المفقر المستضعف المنهوب الثروات، مسلوب الإرادة والكرامة، بحكم ما بلغه من ضنك العيش وانهيار المقدرة الشرائية وتفاقم المديونية. أما القلة ممن تيسّرت لهم الهجرة واجتياز أسوار البلاد للبحث عن أفق أرحب، وحياة أكرم، فقد سافروا غير آسفين أو دامعين على وطنٍ فرّط فيهم، فهجرة الأدمغة والكفاءات والإطارات (الكوادر) العليا في الدولة أضحت ميزة العشرية السوداء الأخيرة من تاريخ البلاد، متسبّبة في نزيف حقيقي لمفاصل الدولة ولقياداتها واقتصادها الذي أوشك على الانهيار والإفلاس.


جعل هذا الوضع كل أطياف الشعب التونسي تنتظر الخلاص، إثر "زلزال 25 جويلية". وأضحى الانتظار الميزة الغالبة على المرحلة الاستثنائية، انتظار تعيين رئيس حكومة ما فتئ رئيس الجمهورية يعلن عن قرب الكشف عن اسمه، وعن ملامح الحكومة الجديدة، ولا يزال "العصفور النادر" محل بحث وتمحيص وتدقيق. ولا غرابة في ذلك أمام إخفاق رئاسة الجمهورية في الاختبار في مناسبتين، فقد أتيح لها اختيار رئيس الحكومة. بين إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي فروق وتباعد، لكنهما يلتقيان في إدانة رئاسة الجمهورية، وتحميلها مسؤولية سوء الاختيار، وإن كان سقوط حكومة الفخفاخ مدبّرا بإتقان من حركة النهضة وأتباعها، لأنها لم تجد حكومةً على المقاس تستحوذ بها على مفاصل الدولة ودواليب الحكم. وكان إعفاء حكومة المشيشي نتاج فشلها الذريع في حل الأزمات والمشكلات وحلحلة الوضعين، الاقتصادي والمالي، بالإضافة إلى انقلاب رئيسها على رئاسة الجمهورية التي عينته وكلفته بإدارة السلطة التنفيذية واحتمائه بحلفاء جدُد تقودهم حركة النهضة، سلبوا إرادته وجعلوه رهينة المافيات واللوبيات المتنفذة والموغلة في الفساد.


لذلك أضحى اختيار رئيس للحكومة في مرحلة حاسمة ودقيقة من تاريخ تونس صعبا، بل يكاد يكون اختبارا أخيرا لرئاسة الجمهورية، ولحسن إدارتها المرحلة الاستثنائية، هل ستكون حكومة ذات توجهات اقتصادية ومالية، أم حكومة تصريف أعمال، أم حكومة إنقاذ وطني، أم حكومة حرب على الفساد؟ وإن اختلفت المسميات، فإن هناك اتفاقا على أمر واحد ظاهر للعيان، ولا يحتاج برهانا، وهو أن هذه الحكومة ستكون مسؤولة مسؤولية أحادية وحصرية لدى رئيس الجمهورية، وتعمل تحت إشرافه ووفق إرادته وتوجهاته، وطبق الخطوط العريضة التي يرسمها لها، بحيث هناك قطيعة مع محدّدات الأنظمة البرلمانية وضوابطها التي تقتضي انبثاق الحكومة من البرلمان، ومن الحزب الأغلبي فيه، وإثارة مسؤوليتها أمامه، ما يفضي إلى النأي عن مقتضيات دستور 2014، فيما رسمه من معالم العلاقة بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، ومغازلة للأنظمة الرئاسية أو الرئاسوية التي يحتكر فيها رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية، ويمارسها بمساعدة حكومة يرأسها وزيرٌ أول، يظل في وضع تبعيةٍ لرئاسة الجمهورية، ويقتصر دورُه على مجرد تنفيذ وتجسيد السياسات العامة للدولة، وضبط القواعد التفصيلية لتنزيلها على أرض الواقع، وفق رؤى وتصوراتٍ وتوجهاتٍ يضعها رئيس الدولة. وبذلك تركز السلطة التنفيذية بيد جهاز واحد، وينتهي عهد السلطة التنفيذية ذات الرأسين، تمهيدا لإعادة النظر في دستور 2014، بتعديله فيما يتعلق بطبيعة النظام السياسي والعلاقات بين السلطات، أو بوضع دستور جديد يضع حدّا لمنظومة سياسية ونظام حكم تتشظّى فيه المسؤولية، ويتعدّد فيه الحكام، ويسمح بولوج الفاسدين واللصوص والانتهازيين والمارقين عن القانون لعالم السياسة ولدواليب الدولة ومفاصلها، بل يوفر لهم الحماية والحصانة والفرص لمزيد من نهب المال العام وسوء إدارة الشأن العام، وتبييض الفساد والرداءة والبذاءة وانعدام الكفاءة. ولعل من أهم مقوّمات مرحلة ما بعد "25 جويلية" ومقتضياتها تعديل النظام الانتخابي الذي أفرز مشهدا سياسيا فسيفسائيا، يصعب فيه التعايش، ويسهل فيه الانسحاب من المسؤولية. أضف إلى ذلك إصلاح مرفق القضاء، حتى يتحول إلى سلطة فعلية مستقلة موازية، لا موالية لبقية السلطات، ويضطلع بدوره المحوري في مقاومة الفساد، وتركيز دولة القانون والمؤسسات، دولة عادلة وقوية، لا سيادة فيها إلا للقانون، ويتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات، وفي العيش الكريم واللائق بالذات البشرية.


وتأتي القرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، في 22 سبتمبر/ أيار الحالي، لتضع حدا لكل الجدل القائم بشأن إمكانية العودة إلى مجلس نواب الشعب، بجلبابه القديم وبصورته المهتزّة لدى الرأي العام، وبشأن إمكانية الإبقاء على نظام الحكم المؤسّس على دستور 2014 وعلى مؤسساته، حيث اتضح للعيان أن الرئيس ماضٍ في طريق اللاعودة، بكل ما يحفّه من مخاطر وشكوك وهواجس، فالأمر الرئاسي المؤرخ في 22 سبتمبر يؤسّس، طبقا لرأي غالبية رجال القانون، لتنظيم مؤقت للسلطات، يقطع مع النظام القديم، ويمهد لنظام حكم جديد، يرتكز على تعديلات تتعلق بالإصلاحات السياسية، يعدّها رئيس الجمهورية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي. ويتم عرضها على الاستفتاء الشعبي، لتكتسي شرعية ديمقراطية قصوى، عبر ممارسة الشعب سيادته وتعبيره عن إرادته بصورة مباشرة. ويجب أن تهدف مشاريع هذه التعديلات، حسب ما ورد في نص الأمر الرئاسي، إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي، يكون فيه الشعب بالفعل صاحب السيادة ومصدر السلطات، ويمارسها بواسطة نواب منتخبين، أو عبر الاستفتاء، ويقوم على أساس الفصل بين السلطات والتوازن الفعلي بينها، ويعزّز دولة القانون، ويضمن الحقوق والحريات العامة والفردية، وتحقيق أهداف الثورة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية.


كما تخوّل القرارات الرئاسية الجديدة لرئيس الجمهورية ممارسة سلطة تشريعية، تتمثل في سن مراسيم في ميادين مهمة وحيوية، تكاد تلامس كل مجالات تسيير الدولة وأجهزتها ومرافقها، وتمنحه صلاحياتٍ موسّعة تجعله مركزا للقرار، ومجمعا للسلطتين، التنفيذية والتشريعية، ما أجّج مخاوف بعضهم من عودة الدكتاتورية والاستبداد والانفراد بالسلطة وانتهاك الحقوق والحريات، إلى درجة أن هده المخاوف أضحت بمثابة الفزّاعة التي يتبجح بها خصوم الرئيس في الداخل والخارج، لثنيه عن الإصلاحات التي ينوي تنزيلها على أرض الواقع، ولإحكام ممارسة الضغوط والإكراهات عليه، حتى يتراجع عن مخطّطاته، كما تضمنت القرارات إلغاء كل المنح والامتيازات التي يتمتع بها رئيس مجلس النواب وأعضاؤه، ومواصلة تجميد صلاحياتهم واختصاصاتهم، ورفع الحصانة عنهم، ليفضي الأمر واقعيا إلى حل البرلمان وتغييبه نهائيا، في انتظار تنظيم انتخابات تشريعية جديدة على أسس دستورية وانتخابية، متمايزة عمّا كان سائدا في العشرية الأخيرة.


ولم ينصّ الأمر الرئاسي صراحة على تعليق العمل بدستور 2014، لكنه ألغى جانبا أساسيا وجوهريا من أحكامه التي تتعارض مع ما ورد في التنظيم المؤقت للسلطات، الوارد في الأمر الرئاسي، من ذلك مثلا إلغاء الهيئة الوقتية (المؤقتة) لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ما جعل كثيرين من متابعي الشأن العام وأساتذة القانون الدستوري يعتبرون أن تونس خرجت من بوتقة التدابير الاستثنائية، ومن غطاء الشرعية الدستورية، لتتحول إلى "دولة الاستثناء" التي تعلو فيها مراسيم وقرارت صادرة عن رئيس الجمهورية الأحكام الدستورية، وتلغي تلك التي تتعارض معها، محدثةً رجّة وانقلابا في هرم القواعد القانونية، وتحوّلا في السائد والمألوف، معلنة عن بداية نهاية حقبة سياسية ودستورية، دامت عشر سنوات عجاف، وأرهقت كاهل العباد والبلاد، ومؤذنه بميلاد فرز إعادة تموقع للقوى السياسية والوطنية.


ومهما يكن من أمر، يتجاوز ما يحدث في تونس اليوم الإشكالات التقنية والقانونية والدستورية الصرفة، ولا يمكن أن تتم قولبته وفق أنماط جاهزة. وحالة الاستثناء التي تمر بها البلاد تجيز محظوراتٍ عديدة تبيحها ضرورات الإصلاح والتأسيس من جديد لنظام حكمٍ يحفظ كرامة الفرد، ويعيد الاعتبار إلى مؤسّسات الدولة، ويتم فيه تحميل المسؤوليات بصورة واضحة وجلية، ويقطع مع دولة الفساد والعصابات والمافيات.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط 


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 8