في خطوة وُصفت بأنها تاريخية وغير مسبوقة، أعلنت المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية عن توقيع اتفاقية دفاع مشترك هي الأولى من نوعها منذ تأسيس العلاقات بين البلدين.
الإعلان جاء من الرياض بعد لقاء جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان برئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، حيث نصّت الاتفاقية على أن أي اعتداء تتعرض له إحدى الدولتين يُعتبر اعتداءً مباشرًا على الأخرى، بما يترتب عليه التزام متبادل بالدفاع والردع العسكري.
هذه الاتفاقية تمثل نقطة تحوّل كبرى في معادلة الأمن الإقليمي، ليس فقط لأنها توطد شراكة استراتيجية بين بلدين محوريين في العالم الإسلامي، وإنما لأنها تفتح الباب أمام بروز مظلة ردع نووية إسلامية – بحكم امتلاك باكستان للسلاح النووي – وهو ما لم يكن مطروحًا رسميًا من قبل على هذا النحو الواضح والصريح.
العلاقات السعودية – الباكستانية
العلاقات بين الرياض وإسلام آباد ليست جديدة، بل تمتد لعقود طويلة اتسمت بالتقارب السياسي والتعاون الاقتصادي والعسكري. فمنذ استقلال باكستان عام 1947، لعبت السعودية دورًا داعمًا لها على المستويات كافة، سواء من خلال المساعدات الاقتصادية أو عبر توفير الدعم السياسي في المحافل الدولية.
لكن البعد الأهم في العلاقة كان دومًا التعاون العسكري. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، شهدت السعودية تواجدًا تدريبيًا كبيرًا للضباط الباكستانيين داخل قواتها المسلحة. كما أن الرياض كانت من أبرز الممولين غير المعلنين للبرنامج النووي الباكستاني في مراحله المبكرة، خاصة في فترة العالم النووي الشهير عبد القدير خان.
هذا الدعم لم يكن وليد المصادفة، بل جاء انطلاقًا من إدراك السعودية لخطورة البيئة الأمنية في الشرق الأوسط، وحاجتها الدائمة إلى مظلة ردع قوية في مواجهة التهديدات الإسرائيلية والإيرانية على حد سواء.
تفاصيل الاتفاقية الجديدة ومضمونها الاستراتيجي
الاتفاقية التي تم توقيعها في الرياض لم تُطرح بصيغة بروتوكولية أو مجرد إطار للتعاون الأمني كما جرت العادة بين الدول، بل جاءت بلغة صريحة تحمل في طياتها التزامًا كاملاً بالدفاع المشترك. فالنصوص المُعلنة حتى الآن تشير بوضوح إلى أن أي اعتداء على السعودية هو بمثابة اعتداء على باكستان، والعكس صحيح.
هذه الصياغة تضع الاتفاقية في مرتبة مشابهة تمامًا لما هو معمول به في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث تُعتبر الهجمة على أي دولة عضو اعتداءً على كامل الحلف. وبذلك، فإن السعودية وضعت نفسها للمرة الأولى ضمن مظلة أمنية متكاملة مع دولة نووية، بما يرفع من قدرتها على الردع بشكل جذري.
الأمر الأهم هو أن الاتفاقية لم تُبنى فقط على فكرة الدفاع العسكري التقليدي، بل تضمّنت – وفق تصريحات رسمية – بنودًا تتعلق بـ التعاون في الصناعات الدفاعية، تبادل الخبرات التكنولوجية، التدريب المشترك، وإجراء مناورات عسكرية موسعة. هذا يعني أن الاتفاق ليس مجرد التزام سياسي، وإنما مشروع استراتيجي متكامل سيُترجم إلى خطط على الأرض خلال الفترة المقبلة.
الأبعاد النووية للاتفاقية
عندما نضع الاتفاقية في سياقها النووي، تصبح أهميتها مضاعفة. فباكستان تُعتبر الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك ترسانة نووية مُعترف بها عالميًا، مع منظومة صواريخ باليستية قادرة على الوصول إلى أهداف بعيدة. في المقابل، لطالما سعت السعودية إلى بناء قدرات ردع نوعية تحميها من التهديدات، لكنها لم تنخرط في برنامج نووي خاص بها، تجنبًا للصدام مع الولايات المتحدة والغرب.
غير أن الاتفاقية الجديدة تمنح المملكة – بشكل غير مباشر – مظلة ردع نووي من خلال شراكتها مع باكستان. أي أن أي تهديد وجودي أو استراتيجي تتعرض له الرياض قد يفتح الباب أمام استخدام الردع النووي الباكستاني كخط دفاع أخير.
هذا التطور يغيّر تمامًا موازين القوى في الشرق الأوسط، إذ يدخل للمرة الأولى عنصر الردع النووي في حسابات أمن الخليج بشكل رسمي وعلني، بعد أن ظلّ مجرد تكهنات وتسريبات لعقود.
التحولات الإقليمية والبيئة الأمنية الجديدة
لا يمكن قراءة هذه الاتفاقية بمعزل عن التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة خلال العامين الأخيرين. فالثقة الخليجية في المظلة الأمنية الأمريكية تراجعت بشكل ملحوظ، خاصة بعد أحداث كبرى مثل:
الضربة الإسرائيلية للدوحة وما تبعها من فوضى في الحسابات الخليجية.
الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، الذي عزز الانطباع بأن واشنطن لم تعد قادرة أو راغبة في حماية حلفائها التقليديين.
تصاعد النفوذ الإيراني وتنامي تدخلاته في العراق وسوريا واليمن ولبنان، بما جعل دول الخليج تبحث عن بدائل أكثر جدية للردع.
في ظل هذه المعطيات، يصبح الاتفاق السعودي الباكستاني جزءًا من إعادة تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية، حيث تتجه دول المنطقة إلى بناء شراكات أمنية جديدة تتجاوز الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة.
البعد الإسلامي نحو قوة ردع مشتركة؟
أحد الجوانب الأكثر إثارة في الاتفاقية هو بعدها الإسلامي. فالسعودية، باعتبارها قلب العالم الإسلامي ومركز ثقله الروحي، لا يمكن أن تدخل في تحالف دفاعي بهذا الحجم إلا وهي تدرك رمزيته بالنسبة لبقية الدول الإسلامية. أما باكستان فهي صاحبة الجيش المسلم الأكبر في العالم، وصاحبة القدرات النووية الإسلامية الوحيدة.
ومن هنا، يمكن النظر إلى الاتفاقية باعتبارها اللبنة الأولى في بناء منظومة ردع إسلامية أوسع، قد تتطور تدريجيًا عبر اتفاقيات ثنائية مماثلة مع مصر وتركيا وربما إيران، وهو ما سيؤدي – إن تحقق – إلى قيام محور إسلامي عسكري قادر على مواجهة التحديات الإسرائيلية والغربية معًا.
الملفت أن هذه الخطوة تأتي مباشرة بعد قمة الدوحة الأخيرة، التي شهدت دعوة مصرية صريحة لإنشاء آلية موحدة لحماية المصالح المشتركة للدول الإسلامية. اللقاءات الثنائية بين رئيس الوزراء الباكستاني والرئيس المصري على هامش القمة تعزز هذا الاتجاه وتفتح باب التكهنات حول خطوات مقبلة قد تكون قيد الإعداد.
ردود الفعل الدولية – قلق غربي وارتباك إسرائيلي
1. الولايات المتحدة: فقدان السيطرة على الحليف الأوثق
من المتوقع أن تشعر واشنطن بقلق بالغ من هذه الاتفاقية. فمنذ عقود، اعتمدت الاستراتيجية الأمريكية في الخليج على أن السعودية تبقى تحت المظلة الأمنية الأمريكية بشكل كامل، مع عدم السماح لها بالاقتراب من أي مظلة نووية بديلة.
الآن، ومع توقيع الاتفاقية الدفاعية مع باكستان، تجد واشنطن نفسها أمام تحول استراتيجي خطير:
السعودية، أكبر مستورد للسلاح الأمريكي في العالم، تفتح الباب لشراكة دفاعية غير خاضعة للنفوذ الأمريكي.
مظلة الردع النووي الباكستاني قد تُقلص من قدرة الولايات المتحدة على فرض شروطها على الرياض.
الاتفاق يعكس بشكل مباشر تآكل الثقة الخليجية في الالتزامات الأمنية الأمريكية، خصوصًا بعد أن تركت واشنطن حلفاءها عرضة للتهديدات الإيرانية والإسرائيلية.
2. إسرائيل: تهديد مباشر لمعادلة الردع
إسرائيل، التي لطالما اعتبرت نفسها القوة النووية الوحيدة في المنطقة، تجد في هذه الاتفاقية تحديًا غير مسبوق. فهي تعلم جيدًا أن السعودية بامتلاكها غطاءً نوويًا باكستانيًا تصبح في وضع يسمح لها بمواجهة أي ابتزاز عسكري أو توسع إسرائيلي محتمل.
الأوساط الأمنية الإسرائيلية تدرك أن هذا التطور يعقّد خططها التوسعية التي تقوم على افتراض ضعف الردع العربي والإسلامي. لذلك، من المتوقع أن تكثّف إسرائيل جهودها الدبلوماسية والإعلامية لمحاولة التشويش على الاتفاق، وربما السعي لدى واشنطن لاتخاذ خطوات عقابية أو ضاغطة على إسلام آباد.
3. إيران: ازدواجية في الحسابات
بالنسبة لإيران، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا. فمن جهة، تدرك طهران أن أي تقارب سعودي-باكستاني يضعها أمام محور قوي قد يحد من نفوذها الإقليمي. ومن جهة أخرى، تحتفظ إيران بعلاقات مستقرة نسبيًا مع باكستان، خاصة في ظل التداخل الجغرافي والاقتصادي بينهما.
غير أن إدخال العنصر النووي في معادلة الردع السعودي سيجعل إيران أكثر حذرًا في تحركاتها بالمنطقة، خصوصًا في اليمن والخليج العربي. وقد يدفعها ذلك إلى إعادة حساباتها بشأن مدى التصعيد ضد السعودية في المرحلة المقبلة.
4. تركيا: مكسب محتمل وفرصة للانضمام
تركيا بدورها قد تنظر إلى الاتفاقية كفرصة لتعزيز التعاون مع كل من الرياض وإسلام آباد. فأنقرة تسعى منذ سنوات إلى لعب دور قيادي في العالم الإسلامي، وتحالف دفاعي من هذا النوع قد يفتح أمامها المجال للانخراط ضمن منظومة ردع إسلامية أوسع.
وفي حال انضمام تركيا لاحقًا إلى ترتيبات مماثلة، فإن المنطقة قد تشهد ميلاد محور إسلامي ثلاثي (سعودي – باكستاني – تركي) يشكل قوة ردع هائلة، ويغير جذريًا موازين القوى مع إسرائيل وإيران على حد سواء.
التداعيات الإقليمية – نحو خريطة جديدة للتحالفات
انزياح الخليج عن أمريكا
توقيع هذه الاتفاقية يُعد بمثابة رسالة قوية بأن الخليج لم يعد يثق في الحماية الأمريكية، وأنه بدأ فعليًا بالتحرك نحو شركاء بدائل، سواء في آسيا أو في العالم الإسلامي.
مصر في قلب المعادلة
لا يمكن إغفال الدور المصري، خاصة بعد الدعوة التي أطلقها الرئيس المصري في قمة الدوحة لإنشاء آلية إسلامية موحدة للأمن والدفاع. من المرجح أن تكون القاهرة شريكًا محوريًا في المرحلة المقبلة، نظرًا لثقلها العسكري والسياسي والجغرافي.
قطر خارج الحسابات
المفارقة أن قطر، التي تعرضت لضربة إسرائيلية مباشرة، اختارت تعزيز تعاونها الدفاعي مع واشنطن بدلًا من الاندماج في الترتيبات الإقليمية الجديدة. هذا الموقف يعكس تباين الرؤى داخل البيت الخليجي، لكنه في الوقت ذاته قد يُعزز من وحدة الدول الأخرى التي تسعى للتحرك جماعيًا.
السيناريوهات المستقبلية
1. التطور التدريجي: من المتوقع أن تبدأ الاتفاقية بترتيبات ثنائية تشمل تدريبات مشتركة ومناورات، ثم تتوسع تدريجيًا نحو بناء منظومة ردع أوسع.
2. تكتل إسلامي دفاعي: على المدى المتوسط، قد نشهد انضمام دول مثل مصر وتركيا، وربما إيران، لتشكيل محور إسلامي دفاعي ضد التهديدات المشتركة.
3. ضغط أمريكي متزايد: واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي، وقد تحاول استخدام أدواتها الاقتصادية والسياسية للضغط على الرياض وإسلام آباد للحد من تفعيل الاتفاقية.
4. تصعيد إسرائيلي: إسرائيل قد تعتبر الاتفاق تهديدًا وجوديًا وتتحرك لتعطيله عبر التحريض أو العمليات الاستخباراتية.
الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان ليست مجرد وثيقة ثنائية، بل هي إعلان ميلاد مرحلة جديدة في الأمن الإقليمي. إنها خطوة تحمل في طياتها ملامح ولادة مظلة ردع إسلامية تمتلك عنصر القوة النووية، وتفتح الباب أمام إعادة تشكيل التحالفات بعيدًا عن السيطرة الأمريكية.
قد تكون هذه البداية لمسار طويل ومعقد، لكن مجرد توقيع الاتفاقية يعكس أن العالم الإسلامي بدأ يستعيد زمام المبادرة، وأن القوى الكبرى في المنطقة لم تعد مستعدة للقبول بأن تبقى تحت رحمة المعادلات المفروضة من الخارج.