في إطار رسالته البحثية الهادفة لفهم التحولات الإقليمية والدولية، نظم مركز رَع للدراسات الاستراتيجية لقاءً فكريًا مع اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق وكبير مستشاري المركز، تحت عنوان: "إسرائيل من الداخل: كيف تفكر في الفترة المقبلة؟".
أدار النقاش د. أبو الفضل الإسناوي المدير الأكاديمي للمركز، بمشاركة نخبة من الخبراء والباحثين، بينهم اللواء طيار مهندس عبد الحميد العناني، وأستاذة القانون الدولي د. ميرفت عبد الرحمن.
ركز اللقاء على تحليل جذور الموقف الداخلي الإسرائيلي، واستشراف السيناريوهات المحتملة للتصعيد الراهن في فلسطين والمنطقة.
المجتمع الإسرائيلي بين التعددية والانقسام
توقف اللواء أحمد زغلول مهران مطولًا عند تركيبة المجتمع الإسرائيلي، مؤكدًا أنها تمثل المفتاح لفهم طبيعة هذا الكيان وسلوكه. فإسرائيل ليست مجتمعًا متجانسًا، بل فسيفساء بشرية تضم تيارات وخلفيات متناقضة، تمتزج أحيانًا وتتباين في معظم الأحيان.
فالآشكيناز، القادمون من أوروبا الوسطى والشرقية، يمثلون النخبة المتحكمة في مقاليد الحكم والاقتصاد والإعلام. هم من صاغوا البنية السياسية للدولة منذ تأسيسها، واستفادوا من خبراتهم الأوروبية في إدارة المؤسسات الحديثة. وفي المقابل، يعاني السفارديم والمزراحيم من تمييز اجتماعي وثقافي، حيث وُضعوا في مواقع أدنى داخل البنية المجتمعية. أما يهود الفلاشا القادمون من إثيوبيا فيمثلون الحلقة الأضعف، إذ يواجهون عنصرية مضاعفة بسبب لون بشرتهم وأصولهم الإفريقية.
وأشار اللواء مهران إلى أن إسرائيل تقدم نفسها كدولة ديمقراطية، لكنها في واقع الأمر تُمارس تمييزًا مؤسسيًا ممنهجًا، يتجلى في توزيع الوظائف، فرص التعليم، والتمثيل السياسي. وأضاف أن هذه الانقسامات الداخلية لا تمنع إسرائيل من استخدام خطاب يوحد مواطنيها عند مواجهة "العدو الخارجي"، لكنها تظل مصدر توتر يمكن أن يظهر عند أي أزمة اقتصادية أو سياسية داخلية.
كما أشار إلى وضع الدروز الذين يشكلون حالة خاصة، إذ انخرط كثير منهم في الجيش الإسرائيلي ويعاملون كمكون شبه منفصل، ما يوضح كيف توظف إسرائيل الأقليات بما يخدم استراتيجيتها.
عسكرة الدولة ومحورية الجيش
أوضح اللواء مهران أن إسرائيل دولة قائمة على العسكرة الشاملة، حيث يمثل الجيش العمود الفقري للمجتمع. فكل مواطن تقريبًا يمر عبر التجربة العسكرية، سواء بالخدمة الإلزامية أو البقاء في قوات الاحتياط لفترات طويلة. هذا الواقع جعل الثقافة العسكرية متغلغلة في تفاصيل الحياة اليومية، بدءًا من التعليم المدرسي الذي يُعزز قيم الانضباط والقتال، وصولًا إلى الاقتصاد الذي يستفيد من الصناعات الدفاعية والتكنولوجية المرتبطة بها.
وأضاف أن الدولة تُقسم إلى ثلاث مناطق عسكرية رئيسية: شمالية، وسطى، وجنوبية، حيث ترتبط كل منطقة بمهام محددة. المنطقة الجنوبية، على سبيل المثال، تختص بقطاع غزة وتشرف على العمليات الموجهة ضد الفصائل الفلسطينية. كما استعرض بعض العمليات الخاصة التي نفذتها إسرائيل، مثل اغتيال القيادات الفلسطينية، والتي جسدت كيف يوظف الجيش أدواته الأمنية والعسكرية لتصفية الخصوم خارج إطار المواجهة المباشرة.
وأوضح أن هذه العقلية العسكرية تجعل إسرائيل تعيش في حالة "تأهب دائم"، وهو ما يُكسبها قوة تكتيكية لكنه في الوقت نفسه يخلق ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا على سكانها.
الدعم الخارجي والإعلام كسلاح استراتيجي
لفت اللواء مهران إلى أن إسرائيل رغم ما تملكه من قوة عسكرية واقتصادية، فإنها تظل بحاجة ماسة إلى الدعم الخارجي. الولايات المتحدة هي الداعم الأكبر، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، حيث تُقدم مليارات الدولارات سنويًا كمساعدات عسكرية، وتستخدم "الفيتو" في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من أي إدانة دولية. أما بريطانيا وفرنسا وألمانيا فتمثل رافعة إضافية عبر التعاون الاقتصادي والدبلوماسي.
لكن الأخطر – كما أشار – هو السيطرة على الإعلام العالمي. فالقنوات الكبرى في الغرب غالبًا ما تتبنى الرواية الإسرائيلية، إما لاعتبارات الملكية أو بسبب شبكات التمويل. واستشهد بكيفية توظيف إسرائيل للإعلام لتسويق جرائمها في غزة بوصفها "دفاعًا عن النفس"، في وقت تُقتل فيه آلاف المدنيين الفلسطينيين.
هذا البعد الإعلامي يجعل من إسرائيل كيانًا لا يكتفي بالقوة العسكرية، بل يسعى لفرض هيمنة سردية تؤثر في الرأي العام الغربي والعالمي، وتضيق الخناق على الرواية العربية والفلسطينية.
المخططات الإسرائيلية في فلسطين
قدم اللواء مهران رؤية شاملة لسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور:
1. التفريغ الديموغرافي: تسعى إسرائيل إلى إفراغ فلسطين التاريخية من سكانها العرب عبر مزيج من السياسات؛ هدم المنازل، سحب الهويات، تضييق سبل العيش، وتشجيع الهجرة القسرية. الهدف هو خلق أغلبية يهودية تضمن السيطرة الدائمة.
2. تفوق الآشكيناز: النخبة الحاكمة تستخدم موقعها المهيمن لتكريس التمييز ضد بقية المكونات، مما يعزز إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، بما فيها الإعلام والاقتصاد والتعليم. هذا التفوق يمنحهم القدرة على رسم السياسات الكبرى دون مشاركة حقيقية من بقية المكونات.
3. مواجهة المقاومة: اعتبر اللواء مهران أن الحديث عن القضاء على المقاومة مجرد وهم، إذ أن المقاومة الفلسطينية متجددة بطبيعتها. من الانتفاضات الشعبية إلى الصواريخ، ومن العمليات الفردية إلى المقاومة الإلكترونية، فإن الشعب الفلسطيني يجد دومًا أدوات جديدة لمواجهة الاحتلال، وهو ما يجعل الصراع ممتدًا بلا نهاية منظورة.
البعد المصري والعربي
سلط اللواء مهران الضوء على مكانة مصر باعتبارها الفاعل المركزي في الإقليم، موضحًا أن الدولة المصرية تملك استراتيجيات واضحة للتعامل مع أي تهديد لأمنها القومي. واستشهد بدور مصر في فتح الحدود عام 2005 لتخفيف معاناة الفلسطينيين، مؤكدًا أن القاهرة لم تتخل عن القضية الفلسطينية في أي وقت.
وأشار كذلك إلى خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة الدوحة العربية–الإسلامية، حيث شدد على ضرورة وحدة الصف العربي في مواجهة المخططات الإسرائيلية. واعتبر اللواء مهران أن هذا الخطاب يعكس إدراكًا مصريًا عميقًا لأهمية التوازن بين حماية الأمن القومي ومساندة الحق الفلسطيني.
كما أوضح أن إخراج كوادر وطنية قادرة على مواجهة هذه التحديات يحتاج إلى الالتزام بـ"مثلث الولاء والانتماء والعمل بضمير"، وهو ما يشكل الأساس لأي نهضة وطنية حقيقية.
تساؤلات الحضور وردود اللواء مهران
تخلل اللقاء نقاش موسع بين الحضور واللواء مهران، حيث طُرحت عدة أسئلة جوهرية.
قدرة إسرائيل على السيطرة منفردة: أكد مهران أن إسرائيل ليست قوة قائمة بذاتها، بل تعتمد على شبكات الدعم الغربي.
مستقبل التطبيع: أوضح أن مسار التطبيع مستمر بدوافع المصلحة، لكنه يظل متفاوتًا بين الدول. وأشار إلى أن قطر وتركيا لعبتا أدوارًا مبكرة في هذا المسار.
الاكتفاء العسكري الذاتي: أشار إلى أن إسرائيل متقدمة تكنولوجيًا وتمتلك صناعات عسكرية متطورة، لكنها لا تستطيع الاستغناء كليًا عن الغرب بسبب محدودية الإنتاج الكمي.
هذه النقاشات كشفت عن وعي متنامٍ لدى الباحثين بأهمية دراسة إسرائيل من الداخل، وعدم الاكتفاء بالنظر إليها كعدو خارجي فقط.
الرؤى المستقبلية
أوضح اللواء مهران أن شخصيات مثل بنيامين نتنياهو تنتمي إلى جيل "الصابرا"، الذي نشأ على حلم بناء "إسرائيل الكبرى". دراسة هذه الشخصيات لا تقتصر على ماضيها السياسي، بل تشمل تحليلًا نفسيًا واجتماعيًا لفهم دوافعها وسلوكها.
وأكد أن مواجهة إسرائيل لا يمكن أن تكون عسكرية فقط، بل يجب أن تشمل أبعادًا فكرية وثقافية واستراتيجية طويلة الأمد. وشدد على أن بناء استراتيجيات مضادة ذكية يتطلب دراسة متعمقة لبنية التفكير الإسرائيلي، بما يتيح التنبؤ بتحركاته والرد عليها بمرونة وفاعلية.
التوصيات
خلص اللقاء إلى مجموعة من التوصيات:
1. تعزيز البحوث المتخصصة حول المجتمع الإسرائيلي لفهم نقاط ضعفه الداخلية.
2. الاستثمار في الإعلام العربي لمواجهة الدعاية الإسرائيلية عالميًا.
3. دعم الوحدة العربية في مواجهة التحديات الإقليمية.
4. بناء جيل جديد من الكوادر البحثية قادر على تقديم رؤى استراتيجية متجددة.
كما أكد اللواء أحمد زغلول مهران أن إسرائيل كيان يعيش على الدعم الخارجي، ويستمد قوته من عسكرة المجتمع والسيطرة الإعلامية، لكنه يعاني من تناقضات داخلية وانقسامات بنيوية. وأوضح أن المقاومة الفلسطينية باقية ومتجددة، وأن مصر ستظل قادرة على حماية أمنها القومي مع الاستمرار في دعم فلسطين.
وفي ختام اللقاء، أشاد المشاركون بأهمية استمرار مثل هذه الجلسات البحثية داخل مركز رَع، باعتبارها منصة فكرية استراتيجية قادرة على تقديم بدائل وحلول لصناع القرار في مصر والعالم العربي.