كتب باسل. ف. صالح: بيروت قبل حرب وبعد انهيار

2022.08.27 - 01:46
Facebook Share
طباعة

يشير المفكّر السوري، ياسين الحافظ، في سيرته الذاتية، وهو ذو الهوى القومي العربي، إلى الدور الاستثنائي الذي لعبه لبنان في بلورة حياته المهنية والعائلية والفكرية، وذلك بعد أن خرج من سجون البعثيين رفاق سلاحه في سورية، فقد أدّى لبنان ما قبل الحرب الأهلية الدور المهم في تطور وعي الحافظ الأيديولوجي. لا بل يردف الحافظ ليقول إن لبنان أشعَره بالدفء، وسمح له بالنوم العميق، بعد أن كان قد افتقدهما في سورية، نوم ملء الجفون من دون أن يؤرّقه "زوّار الليل"، بالإشارة إلى أجهزة المخابرات.

لا يكتفي الحافظ بالكلام أعلاه، بل يرى أن لبنان الذي طبع كتبَه ومنشوراته فيه، جعله أكثر تماسًّا مع الثقافة الحديثة وسلوكياتها، حيث تعلّم أن يكون أقل شرقية مع زوجته وأولاده. لافتًا إلى أن الفكرة المباشرة التي استطاع أن يتّخذها عن الحداثة في الغرب، وجد في لبنان مجالًا لمحاولة ممارستها. لهذا، يخلص الحافظ إلى نتيجة مفادها أن بداية احتراق لبنان كانت بمثابة فاجعة مزدوجة قومية وشخصية له، حيث إن الحرب الأهلية اللبنانية لم تكن تعني احتراق وطنه فقط، بل بيته أيضًا، فالحرب في لبنان كانت مجّانية بحسب الحافظ، وجرى تسعيرها فيه لأنه كان نافذة للديمقراطية. نافذة مهما بدت ملوثة، إلا أنها بقيت مفتوحة لتدخل منها رياح الثقافة الحديثة التي خولته أن يكون مختبرًا فكريًّا للعالم العربي، وجعلت من عاصمته بيروت عاصمة العالم العربي الثقافية.

يُستعاد كلام الحافظ هنا ليس بهدف التغني بلبنان الماضي، بقدر نَقْد ما ذهب لبنان الحاضر إليه. حيث لم تعد الراحة النفسية التي وجدها الحافظ، على مستوياته الفكرية والحياتية كافة، مجالًا يمكن أن نشهده في لبنان عمومًا، وبيروت على وجه الخصوص. تلك المدينة التي شاخت بشيخوخة القوى السياسية والثقافات القلقة التي تهيمن عليها. المدينة المسجونة بين فكي الهيمنة والرجعية، والتي باتت معزولة عن محيطها العربي، هي أشبه بغابة باطون تحتلها واجهات المصارف الزجاجية اليائسة والوقحة بعد مرحلة الانهيار.

استسلمت المدينة منذ ما بعد الحرب الأهلية لمشروعين متحالفين مع بعضهما بعضًا، أحدهما رأسمالي وآخر محافظ

بيروت المدينة التي كانت ملاذًا للشعوب وثقافاتهم واختلافاتهم لم تستطع تحمّل بعض النواب البيروتيين الجدد، بطروحاتهم المختلفة والجديدة بعض الشيء. طروحاتٍ وإن كنا نختلف مع الجزء الأكبر منها في مقارباتها، إلا أنها تبقى أكثر مواكبة لروح العصر، حيث يمكنها أن تكون رافدًا فكريًّا وإنسانيًّا جديدًّا يعيد إلى المكان بعضًا من روحٍ افتقدها. بيروت التي كانت تحاصر السلوكيات الشرقية مع الحافظ هي اليوم تحت مرمى نيران الذكورية المطلقة من مجلسها النيابي لمحاكمها الشرعية.

الغريب أن نصف قرن فقط هي المدة بين كلام الحافظ وبيروت اليوم المتقوقعة، والتي تنحو نحو اليمينية وغيرها من طروحات عنصرية وفاشية وذكورية. هل استسلمت المدينة الصغيرة بعد أن كانت مجالًا وحيزًا يتسّع لكل الأفكار الحرّة والثقافات الجديدة؟ كيف نقول للحافظ إن المدينة، مدينته، التي كانت نافذة لبعض من الديمقراطية والحرّيات، للحداثة، للرفض والمواجهة ومقاومة الموت والحصار، بيروت الرافضة للاحتلال والسجون العربية على حد سواء، لم تتحمّل مجموعة تحرّكات تضامنية مع الشعب السوري الذي كان نظامه يُمعن في تصفيته أو تهجيره. كما أنها لم تحم مجموعة ناشطين وناشطات عربًا لجأوا إليها من أنظمة تلاحقهم. فالمدينة اليوم متخمة بالطعام، ومتاجر الألبسة، ومحلات الصيرفة، ومصارف كثيرة تستبيحها، مدينة متخمة باستهلاكٍ كثير، لم تعد مكانًا ينتصر للأحرار، ولا مكانًا يتقبّل بعضًا من حرية. بيروت هذه لن تتسع اليوم لمشهد يجمع بين رغيف خبز وفم عامل أو طفلة جائعة، ولا حتى لقميص يحمي جلد طفل أو ناشطٍ مطارَد.

المشكلة ليست في المكان، بالطبع. ليست في الشوارع ولا إشارات المرور، بل في قوى تمتلك وعيًا مفوَّتًا يهيمن على المدينة ويعود بها إلى الخلف. لقد استسلمت المدينة منذ ما بعد الحرب الأهلية لمشروعين متحالفين مع بعضهما بعضًا، أحدهما رأسمالي وآخر محافظ. استسلمت لتسوياتٍ كثيرة، وها هي اليوم تشهد استكمال الفراغ المتمثل بضمور المكتبات ودور النشر والصحف، بعد أن بدأت بإغلاق أبوابها الواحد تلو الآخر، كما أن المسارح ودور السينما تفتقد بريقها بشكل تدريجي.

بيروت اليوم شبه مدينة، شوارعها شبه شوارع، ومطارحها وذكرياتها شبه مطارح وذكريات

لم يعد من الممكن التحجّج "بالغريب"، بالآخر، بمن هو متآمر من خلف الحدود، بكل أجهزة الاستخبارات التي تسرح وتمرح في الشوارع والأزقة والحانات، وبالدوائر الضيقة ومجالس القرار. بل السبب فيما نحن فيه اليوم قوى لبنانية هيمنت على المشهد منذ بدايات الحرب الأهلية، وما بعدها، حيث لم يعد للبنانيين أي حاجة لمن يدفعهم إلى تقويض المدينة والمستقبل، باتوا يقومون بذلك بقواهم الذاتية وبمجهود شخصي.

بيروت اليوم شبه مدينة، شوارعها شبه شوارع، ومطارحها وذكرياتها شبه مطارح وذكريات. مرفأها ومطارها يتنقلان بين حصار وانفجار. هي مدينة العطش والجوع والظلام الدامس، مرتع الجريمة المنظمة والعشوائية. لقد أصبح يليق بها توصيف المدينة التي تخيف ناسها، مدينة الوحش الكاسر الذي يلزم البيروتيين بالتخفّف من حمولة ذكرياتهم إذا ما أرادوا أن يتنقلوا ليلًا. بيروت هذه لم نعد نعرفها لا بكلام الحافظ ولا بوجهها ما بعد الحرب، لم نعد نتآلف معها ومع أثرٍ تركناه فيها. هي تفقد ناسها رويدًا رويدًا في هجرة ليست داخلية، بل هجرة لهم منها، وهجرة لهم من ذواتهم التي كان لبيروت الدور الحاسم في تشكيلها.

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي كاتبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 3