كتب ساري حنفي: هذا الجدل بشأن الجرائم ضد النساء

2022.08.15 - 01:59
Facebook Share
طباعة

بينما كنت أَهِمُّ في كتابة هذا المقال عن جدل القتل الوحشي للطالبتين الشابتين المصريتين، سلمى بهجت ونيرة أشرف، والفلسطينية لبنى منصور في الإمارات، لأسباب عاطفية، جاءني خبر مقتل إيمان جمال علي في بورسعيد على يد شقيقها (بدافع المال). ظاهرة قتل النساء خطيرة من حيث الأعداد، ومعقدة من حيث الجدل الذي يحصل في المجتمع من تعاطف مع طرف أو آخر، وفي التفسيرات والتبريرات التي يسوقها بعضهم على المواقع الاجتماعية. وتنتشر هذه الظاهرة في مجتمعات كثيرة بتأثير من اعتياد المجتمع على هيمنة الرجل على المرأة (البطريركية)، والذي يشكّل أساسا لتشجيع الرجل على ممارسة العنف على المرأة، بما فيه القتل. وقد كتب باحثون عن الظاهرة تحت اسم قتل النساء (femicide). وأصبحت هذه الظاهرة مرئية، ليس فقط بفضل مواقع التواصل، ولكن أيضا من خلال إحصائيات عدة منها، أنجزتها الأمم المتحدة التي اعتبرت أن امرأة من كل ثلاث تتعرض إلى شكل من العنف.
بعيدا عن هذا العامل الجذري البنيوي المستعصي، تتمدّد هذه الظاهرة وتتقلّص حسب عوامل سوسيولوجية أخرى، وقد جرى تداول بعضها في الوسائط الاجتماعية، ولكنها غير كافية، وخصوصا تلك التي تتميز بالثقافاوية، أي بتفسير ظاهرة قتل النساء باعتبار أن الثقافة العربية الإسلامية تشجّع على العنف ضد المرأة. هذا تفسير جزئي، وكاتب هذه المقالة يتبنى المقاربة التقاطعية، أي التي تتنبه إلى أن التحليل الجندري يحتاج إلى الربط بتحليلات أخرى، مثل الطبقة والإثنية والثقافة والنظامين السياسي والاجتماعي. أعتقد أن ازدياد العنف ضد المرأة مربوط بعلاقته بالعنف السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام بالعالم العربي. نحن نعيش فترة صعبة للغاية في أغلب أنحاء هذا الوطن: ثورات مضادّة، عنف الحكام المستبدّين الذين يصفّون حساباتهم مع المعارضات بالاغتيالات والسجن بدون محاكمات. يضع هذا كله المجتمع العربي بأزمة في كل مفاصله، وخصوصا بالمفصل الضعيف للمجتمع، وهو المرأة والطفل. وجدير بالذكر أن باحثين عزوا العنف ضد المرأة في إسرائيل إلى عسكرة المجتمع (عدد هائل من المجنّدين والاحتياط) وعنفه. وفي لبنان، جعل إفساد الطبقة السياسية خطر الجوع حاسما على رقاب الناس. كم من حادثة قتلٍ حصلت هذه السنة في الفرن أو في الشارع، وطاول منها نساءً؟

نعيش مرحلة الحداثة المتأخرة التي أصبحت فيها المشاعر الفردية شيئا مهما في مجتمعاتنا التي تجعل الأفراد يبنون محاكماتهم الأخلاقية

.. ما زالت جرائم الشرف ظاهرة اجتماعية في العالم العربي، سيما في المجتمعات ذات الطبيعة القبلية والعائلات الكبيرة، كما في سورية والأردن وفلسطين، ولو أن الإحصائيات تظهر انخفاضها وهذا إيجابي. ولكن لا يمكن معالجة ذلك بدون دور قوي وصارم من الدولة والمؤسسة القانونية. المشكلة أن الدولة العربية الفاقدة شرعيتها تهادن الطبقات المحافظة جدا على حساب المعايير الكونية لحقوق الإنسان، ولا توجد، حتى اللحظة، عقوبة رادعة ضد جرائم الشرف في دول عربية كثيرة. وفي الأردن، رغم الجهد الجبار التي تقوم به الحركات النسوية ومنظمات حقوق الإنسان، ما زالت العقوبات غير رادعة.
ما دلالات قتل النساء بسبب فشل علاقات الحب؟ نحن نعيش مرحلة الحداثة المتأخرة التي أصبحت فيها المشاعر الفردية شيئا مهما في مجتمعاتنا التي تجعل الأفراد يبنون محاكماتهم الأخلاقية، فلم يعد هناك داعية (شيخ) واحد في دولةٍ ما يتبعه موطنو الدولة (تذكّروا دور الدعاة الجدد)، ولا أبناء وبنات يتبعون الأب أو العائلة الكبيرة بشكل تلقائي. يتحايث الفردي والجماعي لجعل سلوك الأفراد شيئا معقدا للغاية. ومع هذا التعقيد، تغير شكل العائلة التقليدية، ويظهر العنف بسبب من يحاول الحفاظ على العائلة كما كانت بأي ثمن (سلطة الزوج أو الأخ)، أو من يريد ممارسة شخصيته الذاتية بحرية (رفض فتاة الزواج من شخص ما). قام عالم الاجتماع الإنكليزي، أنتوني غيدنز، بتوصيف كيف تغيرت الأسرة من بينية اجتماعية تحافظ على الوظائف الثلاث: الإنجاب والحب وممارسة الجنس إلى انفصال بين هذه الوظائف الثلاث عن بعضها في العلاقات الاجتماعية، فمن خلال مفهوم "الحب المتدفق" confluent love وصف غيدنز المشاعر التي تربط شراكة الحب. في لحظة معينة، يحب الشريك شريكه، وينجذب الواحد منهما إلى الآخر. وهكذا تكون شراكتهما ممتعة ومُرضية ومرغوبة. لكن ليس هناك أي وعد أو ضمان بأن هذه الحالة الممتعة ستستمر وفق مقولة "نعيش معًا إلى أن يفرّقنا الموت". وبالتالي، أصبح للمرء زوجا لإنجاب طفل وعشيقة يحبها وشخص ثالث لممارسة الجنس معها. لقد احتفى غيدنز بما سمّاها "الجنسانية المرنة" (plastic sexuality)، وذلك في كتابه عن تحوّلات الحميمية. يجعلنا ذلك كله نفكّر بأهمية مشاعر الحب، ولكن أيضا بتبعات تخفيض قيمة عملة الحب وهشاشتها. وهذا كتب عنه زيغمونت بومان بإشكالية تبعات ما سمّاه "الحب السائل"، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالحداثة السائلة، وهو يتفق مع أعمال السوسيولوجية، إيفا إيلوز، في نقدها الرأسمالية المشاعرية وسلعنة الحب ورسملته في حداثتنا الرأسمالية المتأخرة. ماذا يعني ذلك كله؟ إنه يعني أننا أمام ظواهر جديدة اجتماعية معقدة ومتنوعة لم يشهدها مجتمعاتنا سابقا (على الأقل بالحجم) بسبب الضبط الاجتماعي الذي مارسته مؤسسة العائلة التقليدية. وهذا يفسّر كثيرا خوف كثيرين من عامة الناس والمؤسّسة الدينية، ولكن أيضا باحثين عربا كثيرين يخافون من نتائج انفلات العائلة التقليدية، ويعتبرون مظاهر مثل التي تحدُث (قتل النساء) تجليات لها.

مبالغة في تحليل اتجاهات الرأي المبنية على قراءة سريعة لردود فعل غاضبة أو ثأرية مؤيدة لقتل النساء

أذكر ذلك هنا ليس للدعوة إلى المحافظة على مؤسسة العائلة التقليدية بدون النظر إلى ما لها وما عليها، ولكنها دعوة إلى المواءمة بين طوق الفرد لشخصيته الذاتية وأهمية روابطه الاجتماعية مع العائلة والجماعة المحلية والوطن، وحتى الإنسانية. هذه المعادلة الصعبة التي ينبغي الاشتغال عليها بحثيا، ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية، إذا كنا معنيين في معالجة العنف الوحشي ضد النساء، ولكن أيضا أمور كثيرة تتعلق بأهمية العائلة كبنية اجتماعية أساسية في مجتمعاتنا. وفي الوقت نفسه، طوق الفرد من الانعتاق من تحوّل سلطة الأب والأم أو الأخ الكبير إلى سطوة غير إنسانية.
.. هناك مبالغة في تحليل اتجاهات الرأي المبنية على قراءة سريعة لردود فعل غاضبة أو ثأرية مؤيدة لقتل النساء من خلال عدد اللايكات في "فيسبوك"، وبعض الجمل البافلوفية المبرّرة للعنف ضد المرأة. لذا، باطلاعي على ردود الفعل على جرائم قتل سلمى بهجت ونيرة أشرف ولبنى منصور، يمكنني القول إنه ليس هناك ظاهرة مؤيدة للقتل. تبقى الظاهرة الجلية إدانته. مع كل أسف، شجّعت مواقع التواصل الاجتماعي الكلام بدون تروّ، مع استخدام تعبيرات إن لم تكن عنصرية ومعادية للمرأة فهي على حدودهما. هناك تعميمات لا تطاق، نحتاج لأدوات العلوم الاجتماعية لكي نفسرها. ومن ذلك أنني، في مسيرتي البحثية في الصراع العربي الإسرائيلي، وجدت أن فلسطينيين وعربا كثيرين يستخدمون كلمة "يهود" ليشيروا إلى الإسرائيليين. ولو أنني أكره مثل هذه التعميمات، الا أنني لا يمكن أن اعتبر من يقولها بمجرد القيام بهذه التعميمات معادٍ للسامية. رغم كل مساوئ "السوشيال ميديا"، ينبغي أن لا ننسى أنها أيضا من يجعل الأخبار التي يخفيها الإعلام الرسمي أو يهمشها مرئية. فأنا من لبنان علمت بالقتل الوحشي لهذه النساء في مصر وبقع أخرى من خلال "السوشيال ميديا"، ويقوم النشطاء بعقلنة الخطاب ونشر ثقافة حقوق الإنسان.

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي صاحبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 5